باختصار
بينما كنا نتبادل أطراف الحديث بالمدينة القديمة طرابلس، باغتني صديق بأسئلة بداة عابرة في ظاهرها، لكنها عميقة في معناها: أراك مواظباً على كتابة مقالك الصحفي. فلمن تكتب؟ وهل هناك من يقرأ الصحف هذه الأيام؟ وهل لدينا صحافة ليكون لدينا قراء؟
لم تكن الأسئلة غريبة بالنسبة لي، فمنذ سنوات، وكلما التقيت بأحد المهتمين أو حتى اللامباليين بالشأن الإعلامي، تتكرر الأسئلة نفسها ولو بصيغ مختلفة، والإجابة بكل بساطة: أكتب لمن يهتم، حتى لو قل عدد القراء، فالصحافة موجودة رغم قلة النسخ والتوزيع المحدود، والقراءة تتوقف على من يسعى وراء المعرفة، فقد أصبحت وسيلة إعلام للنخب لا للعامة.
أكتب اليوم في صحيفة الصباح الورقية ومنصتها الإلكترونية، منذ قرابة عامين، وقد يظن البعض أن المقال الأسبوعي الذي أنشره يذوب في بحر الأخبار والتدوينات الرقمية، وأن أثره يتلاشى مع تقليب الصفحة أو إغلاق المتصفح… لكن بالنسبة لي، الأمر مختلف تماماً.
أنا أكتب للتاريخ، أكتب لأن ما نعيشه اليوم من قضايا وهموم، من لحظات الانكسار والانتصار، من تفاصيل حياة المواطن الليبي، نقد للظواهر والأحداث، يجب أن يوثق صحفياً، أكتب لأن هذه السطور ستكون، بعد سنوات، مرآة تعكس صورة مرحلة كاملة من تاريخ هذا الوطن، بعيون من عاشوها لا من قرأوا عنها في كتب جامدة.
الكتابة بالنسبة لي أشبه بزراعة شجرة لن أستظل بظلها الآن، لكن سيأتي من يجلس تحتها بعدي، ربما لا يقرأ مقالاتي اليوم سوى قلة، لكني على يقين أن يوماً ما، سيجد باحث أو قارئ شغوف أرشيف (الصباح)، وقبلها صحيفة (وطني) التي كنت أنشر فيها مقالاتي، ويقلب الصفحات ليعرف أني كنت هنا، أراقب، انتقد، أكتب، وأحاول أن أقدم شيئاً لبلادي من مكان عملي وتخصصي أستاذاً لعلم الصحافة والإعلام.
الإنسان في جوهره، ليس إلا حديث بعده، وما يبقى منا بعد الرحيل ليس وجوهنا ولا أصواتنا، بل ما كتبناه، وأثر ما فعلناه، وما تركناه لغيرنا، والصحافة – حتى في زمن عزوف القراء- تظل سجلًّا للذاكرة الجماعية، ودفتراً يسجل نبض المجتمع، ومدونة هموم مواطنيه.
أكتب أيضاً لأن القضايا التي نحملها لا يجب أن تموت بصمت، فهموم الناس، ومشاكل الشارع، وأحلام الشباب، وآلام الفقراء، بل حتى تجاربنا ومواقفنا الشخصية، كلها تستحق أن تجد من يضعها على الورق، ولو كان عدد القراء ضئيلاً… فالكتابة موقف، والشهادة على ما نعيشه واجب، والصمت تواطؤ لا يليق بمن اختار أن يكون في مهنة البحث عن المتاعب.
ربما لن أستطيع أن أغير العالم بمقال، لكني أؤمن أن الكلمة الصادقة مثل حجر صغير يلقى في ماء راكد، تصنع دوائر قد لا نراها لكنها تتحرك إلى أبعد مما نتخيل.
لذلك، سأواصل الكتابة، ليس فقط لمن يقرأ الآن، بل لمن سيقرؤن بعد زمن… ليس من أجل الأرقام، بل من أجل الأثر الذي دائماً ما يكون في مرحلة لاحقة…. ليس بحثاً عن شهرة عابرة، بل بحثاً عن معنى البقاء في ذاكرة وطن نحبه، حتى لو كان ذلك مجرد سطر في أرشيف صحف مهملة في مكتبة قديمة…
باختصار… أكتب لأقول لمن يأتي بعدي: كنت هنا، وهذا ما تركته خلفي، ما جاد به قلمي من وصفٍ ونقدٍ لما عشته ورأيته… ولأحفظ ملامح هذه المرحلة من النسيان، ولأترك أثراً يشهد أني كنت يوماً جزءاً من ذاكرة هذا الوطن.
د. علي عاشور
منصة الصباح الصباح، منصة إخبارية رقمية