منصة الصباح

مَحْبس نُوّارنا

زايد..ناقص

جمعة بوكليب

 

في تفسير معجم المعاني، على الانترنت، فإن كلمة مَحْبَسْ اسم آلة من الفعل حَبَسَ. وجمعها مَحَابِس. ومعانيها كثيرة. حبس الشيء بالشيء، بمعنى أحاطه وستره، يعد أقربها إلى المعنى المقصود في العنوان أعلاه.

“محبس النوّار” يطلق على الاناء الفخاري الذي تزرع فيه شتلة من نباتات الزينة المنزلية. والكلمة “محبس” في اللهجة الليبية، في المنطقة الغربية، تطلق كذلك على الاناء الذي يستخدم من قبل الاطفال لقضاء الحاجة.  السؤال لماذا  أو كيف تمّ تحريف المعني؟، فهذا ما لا أملك له إجابة،ولا يعنيني كثيراً.

القصةُ مع محبس نوّارنا يميّزها شيءٌ من غموض. فأنا لم أعد أذكر من جاء به إلى شقتنا في الظهرة، بطرابلس،  لتكون الشرفة له المقر والمستقر والمأوى. وليس بمستطاعي تحديد الفترة الزمنية، على وجه الدقة، التي وُجد فيها. وما أستطيع تأكيده هو أنّه كان أول وآخر محبس نوّار نقتنيه، ولا أعرف أين انتهى به المصير. كان مجرد محبس نوّار عادي جداً، وليس لافتاً منظره. وأعتقد أن وجود شرفة كبيرة ومشروحة، معلقة في الطابق الثالث، كان المحفّز على اقتنائه واحضاره. لكننا تعودنا عليه، كما تعود هو علينا. وباستثناء أمي، لم يكن أحد منّا يُعيره اهتماماً. وهذا الحرص الأمومي من جانبها، لا يعني كذلك أنها من أحضره إلى الشقة.

أمي، رحمها الله، هي من اختارت له موقعاً في جهة قصيّة من الشرفة. وهي من أختارت نوعية ما يزرع به من شتلات. ويبدو أن النعناع، من دون بقية النباتات، بعطر رائحته، ونكهته المحببة في الشاي، قد تمكن من اقناعها بضرورة بقائه وعدم الاستغناء عنه، لما يقدّمه من خدمات إلى أهل البيت. وهي، أي أمي، مَنْ كان طوال تلك السنين، تتولي العطف والعناية والسقاية والقطف.

والدي، رحمه الله،  قَصّرَ نفسه على الاهتمام بأقفاص العصافير. كان يحرص على تنظيف الأقفاص يومياً، واطعام العصافير، وتوفير ما تحتاجه من عناية. ولا يقترب من محبس النوار، مقابل ألا تقترب أمي من أقفاص العصافير. وفي فترة الثمانينات من القرن الماضي، عاد أبي من العمل ذات نهار إلى الشقة، واكتشف أن أمي قد فتحت أبواب الأقفاص وأطلقت سراح العصافير. وفي تفسيرها لما فعلت، قالت أمي إنها كرهت رؤية العصافير حبيسة، لأنها تذكرها بولدها المحبوس(أنا.) لذلك السبب، لا غير، قررتْ اطلاق سراحها. الغريبُ أن الصمت كان رد فعل أبي. ويقول إخوتي إنهم كانوا يتوقعون منه أن يهرع إلى الشرفة، ويلقي بمحبس النوّار في الشارع انتقاماً. لكنّه خيّب ظنهم. وبدلاً من ذلك، عاد إلى البيت، في الأسبوع التالي، مرفوقاً بطائر ببغاء، في قفص كبير.

في زيارتي الأخيرة إلى  طرابلس، في الصيف الماضي، لم أهتم لغياب محبس النوّار. كنت خلال وجودي بالشقة، أقصدُ الشرفة للتدخين، أو للاسترواح ليلاً هرباً من العتمة وشدة الحرارة والرطوبة. وعرفتُ، من زيارات سابقة، أن الزاوية القصيّة، حيث كان يقيم محبس نوّارنا، تحولت إلى مقر لمولد كهرباء قبيح الشكل ومزعج عند تشغيله. ولم أعرف المصير الذي آل إليه محبس نوّارنا، وأين انتهى؟ ويبدو أن انشغالنا جميعا بحالة أمي الصحّية، وقف حائلاً بيني وبين السؤال عنه.

وما لا يمكن لذاكرتي  نسيانه، هو رؤية أمي قادمة من جهة المطبخ صباحاً، وهي تحمل ابريق ماء، في طريقها نحو الشرفة. تفتح الباب بيد، وتنعطف نحو الجهة القصيّة منها، حيث محبس نوّارها، ثم تنحني لتسقي عروق نعناعه، وتعود محمّلة  بالابريق فارغاً، وظل ابتسامة محببة يزيّن شفتيها. رحمها الله.

شاهد أيضاً

أسعار النفط تنخفض وبرنت تحت 88 دولارًا

  انخفضت أسعار العقود الآجلة لخام برنت القياسي، تسليم يونيو 2024، بنسبة 0.45%، لتصل إلى …