منصة الصباح

منظر لندني

ترجمة/ عمر أبوالقاسم الككلي

هذه الغرفة حورت من فراغ فوق سطح البيت وتطل جهة الجنوب. وضعت سريري بحذاء النافذة الفرنسية(1) التي تملأ الجدار، كي أستطيع الاستلقاء فوقه والنظر إلى السماء حيث ترتفع الشمس في تنوع من سماوات حمراء متوهجة، مخططة بالوردي، معتمة، أو صافية، وتعبر مسافرة طوال اليوم وسرعان ما يعقبها القمر بتعدد أحجامه وألوانه وأشكاله. القمر عال أحيانا، أحيانا شديد الانخفاض، وقد يختفي لوهلة داخل أغصان شجرة دردار ضخمة أدنى الحديقة، وهي حديقة لندنية طويلة بعرض البيت.

عبر الشرفة التي تطل عليها النافذة الفرنسية أنظر إلى الأسفل نحو الحدائق الممتدة بطول الشارع. بعضها مهمل، مأهول بفوضى الطيور، بعضها مصمم بعناية حسب الأصول، بعضها حتى الهواة الممتلئون بفوضى عذبة من أمثالي يمكنهم إنجازه، ورود، سواسن، زنابق، رِجْل الغراب، كلها مجتمعة، إلا أنها حينها ستكون أقرب إلى الدغل، لأني لن أستطيع القيام بترويضها. في هذه الحدائق تتجول القطط من كل نوع، قطط عالية النوعية وقطط عادية، والأشجار تضج بالطيور. نطعمها، أنا وآخرون. الأسبوع الماضي زار نقار خشب وزاقان شرفتي السفلية بحثا عن لوز قد يكون تدحرج في الفراغات التي بين الأصص ولم تنتبه إليه السناجب والحمائم.

شجرة بتولا كبيرة ترتفع بعلو السقف وخلفها شجرة دردار عملاقة. يوجد كرز، تفاح، كمثرى، زعرور أسود، دلب، وحول فضاء أخضر كبير بحجم مطار صغير أشجار وشجيرات. هذا الحقل الأخضر مستودع ـ يضع الفكتوريون مياههم تحت غطاءات أرضية. عبره، في حالة الصحو، تنظر من فوق السقوف إلى مباني البرلمان وحتى كاناري وورف، وإذا نظرت إلى أعلى التل ناحية اليسار ترى هامبستد، وإذا كنت لا تعرف فستظنه تلا مشجرا منقطا ببضعة أسقف متوزعة كيفما اتفق.

وبالمثل، يمكنني من نافذتي العالية أن أكون في الريف. المكان هاديء هنا أثناء النهار وساكن في الليل، ما من صوت.

على الرصيف يمكن أن تعتقد أن هذا شارع في لندن تتراصف خلفه البيوت. وراء الوجه الآخر من البيوت ملاعب ومقبرة قديمة، وهكذا فإن هذا الشارع التقليدي من المدينة يمضي بين حقول خضراء وأشجار. ليس من المحتمل أن شخصا يقود عبره سيارته يمكنه أن يخمن الحقيقة.

ليس المستودع على قمة التل، بل تقريبا: هو قمة التل. الشارع الذي يفضي نحونا شديد الانحدار حتى أن السيارات، عند وجود الثلج، تنحرف وتنزلق، ولذا فمن الأفضل الالتفاف عبر طريق آخر. منذ وقت غير بعيد كان هذا تلا بريا أخضر يصعده الناس أحيانا متجهين شمال غرب، ثم، بعد استراحة في مكان منبسط، يستأنفون التسلق باتجاه مرتفعات هامبستد. مجموعة الشوارع هذه كانت قد بنيت سنة 1890، دفعة واحدة، كأول شبكة طرق ترتبط بالضواحي. المنطقة التي تحت المستودع، ناحية الجنوب، كانت، حتى الحرب العالمية الأولى، حقولا، أبقارا، جداول. عرفت امرأة مسنة كانت تدوام أيام الأحد على ركوب الحافلة مقابل بنس من قوس الرخام(2) حتى الطاحونة التي سمي باسمها شارع الطاحونة( سرعان ما حلت محلها شقق مضجرة) كي يتسنى لها وضع قدميها في الجداول ومراقبة الأبقار.

وأنا أكتب تسقط الأوراق من على الأشجار دائرة حول نفسها والحدائق تبدو غارقة في الذهبي والبرتقالي والأخضر، والعشب على المستودع أخضر زمردي في الشمس الشاحبة.

DORIS LESSING ولدت سنة  1919 في إيران لأبوين إنغليزيين. سنة 1925 انتقلت أسرتها إلى روديسيا( زمبابوي الحالية). في سن الرابعة عشر تركت المدرسة لتعمل مربية ثم عاملة هاتف و موظفة و كاتبة اختزال فصحفية و نشرت بضع قصص. سنة 1949 انتقلت لتعيش في بريطانيا. كانت معادية للعنصرية و ناشطة في أوساط الحركة الشيوعية في روديسيا و بريطانيا و بسبب ذلك منعت من زيارة جنوب أفريقيا و روديسيا العنصريتين. تحصلت على عدة جوائز مهمة. نالت جائزة نوبل سنة 2007. لها حوالي خمسة وسبعين كتابا تتوزع على القصة و الرواية و المسرحية و كتابات أخرى.

(1) FRENCH WINDOW شباك (من شباكين) له مصراعان ينفتحان على شرفة أو جنينة.( المغني الأكبر).

(2) آثرنا ترجمة اسم الموقعين هنا لمقتضيات السياق.

شاهد أيضاً

فرسانُ الاعتمادات

عبدالرزاق الداهش عندما ترمي نحو نصف مليون دينار في حفل زفاف، وعلى قول أخوتنا المصريين …