مفتاح قناو
مثلما كانت حمية الجاهلية لدى قبائل العرب سببا في كثير من الحروب العبثية، لعل أشهرها حرب البسوس، التي استمرت أربعين عاما بين أبناء العمومة قبائل بكر وتغلب من اجل ناقة، أو حرب داحس والغبراء التي كانت أيضا بين بني العمومة من قبيلتي عبس وذبيان من اجل الفوز في سبق للخيل، إلا أن التاريخ يحكي لنا أيضا عن مواقف هامة وكبيرة لرجال من ذلك العصر، قاموا بأعمال جليلة من اجل إنهاء هذه الحروب، لعل أشهرها ما قام به الرجلان الكريمان هرم بن سنان، والحارث بن عوف لإنهاء حرب داحس والغبراء بين قبائل عبس وذبيان، حيث قام الوجيهان بكل المساعي الحميدة لدى الطرفين ليتوصلا إلى نهاية الحرب ويقوما بدفع دية جميع القتلى من الجانبين من مالهما الخاص، ويكرمهما الشاعر زهير بن أبي سلمى بمدحهما في معلقته الرائعة.
سعى ساعيا غيظ بن مرة بعدما تبـزل مـا بيـن العشيـرة بالـدم
فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله رجـالا بنوه من قريش وجرهم
يمينـا لنـعم السيـدان وجدتـما على كل حال من سحيل ومبـرم
فمن أين لنا في هذا الزمن برجل حكيم مثل هرم بن سنان أو أخر كريم مثل الحارث بن عوف، يمكن لهما أن يتدخلا في حروبنا الأهلية الطاحنة ويصلحا ذات البين، ويعيدا السيوف إلى إغمادها، والدبابات إلى معسكراتها وينهيا الفتنة في بلادنا.
إن النماذج البشرية التي قفزت على كراسي الحكم في بلادنا ولا ترغب في التخلي عنها، لم تبلغ هذه الدرجة من النضج بعد، وهي الدرجة التي وصل إليها عقلاء الناس في أيام الجاهلية، لكن يبدو أن جاهلية القرن الحالي أكبر بكثير من جاهلية ما قبل البعثة النبوية.
لقد جاد هرم بن سنان والحارث بن عوف بأموالهما من اجل حقن الدماء وسيادة الأمن والسلام بين القبائل، بينما يواصل لصوص اليوم ــ في بلادنا ــ السرقات المتوالية من أموال المجتمع لإنفاقها في الحروب وشراء الذمم، وإفساد الحياة بمختلف صورها.
لقد كان الجود من مكارم الأخلاق التي يسعى إليها العرب في الجاهلية، وعندما جاء الإسلام رسخ هذه القيم الجميلة، وجعل بعضها فرضا على كل مسلم، وترك البعض الأخر مزايا وصفات لمن يرغبون في المزيد من الفضل والسمعة الحسنة، لكن بني قومنا في هذا الزمان لا يرون إلا المصلحة الشخصية الضيقة، ولا ينتبهون إلى مصالح الأمة الليبية وضياع الفرص في تنمية البلاد وبنائها على أسس سليمة، لتصبح منارة للأجيال القادمة، حتى لا تلعننا تلك الأجيال على الخراب الذي سنتركه لهم.
إن دروس التاريخ وتجاربه هي النبراس الذي ينبغي علينا النظر فيه لكي نستطيع تجاوز ما نمر به من نكسات ونصل ببلادنا إلى منطقة الأمان الذي ينشده المواطن البسيط.