عبدالسلام الغرياني
في قاعة الاحتفالات بالبيت الأبيض، وقف دونالد ترامب مزهوًّا بانتصاره التاريخي في انتخابات 2024، مُحيطًا به أعلامٌ تحمل شعار “أمريكا أولاً”، بينما تُعلَّق خريطة العالم خلفه بخطوطٍ حمراء تربط بين عواصمٍ استراتيجية.
لوح بيديه كقائدٍ أعاد تعريف السياسة الأمريكية: “سنصنع أمريكا عظيمةً أكثر من أي وقتٍ مضى”، يهتف أمام حشدٍ من المؤيدين الذين يرون فيه “المنقذ” من نظامٍ عالمي يهدد هيمنتهم. لم يكن فوزه مجرد عودةٍ إلى السلطة، بل إعلانٌ عن حقبةٍ جديدة تُعيد فيها أمريكا صياغة تحالفاتها، بدءًا من الشرق الأوسط، إلى الصين مرورا بأوروبا و حرب روسيا مع اوكرانيا، بأسلحة خسيسة كالابتزاز أو الفوقية إلى درجة الشتائم و السباب، المعروفة عن ترامب.
ترامب، الذي يعتمد على “حدس سياسي” كما يصفه، لا يكتفي بالخطابات؛ فسياساته تترجم إلى أفعالٍ جريئة. فبعد أيامٍ من فوزه، حاولت إدارته ترحيل مهاجرين مجرمين إلى ليبيا، متجاوزاً قرارات قضائية فيدرالية، في خطوة تعكس محاولات لفرض الهيمنة عبر سياسات الهجرة الصارمة. الإعلام الموالي يصوره كـ”المقاتل الذي تحتاجه أمريكا”، بينما تهمس النخب في الكواليس عن مخاوفها من تحوُّله إلى “طاغية” يستخدم الدستور كأداةٍ لتمرير أجندته.
على بُعد آلاف الأميال، يجلس قائد ميليشيا ليبي في فناء فيلا استولى عليها لتوه مُحاط ببنادق وأكوامٍ من الذخيرة، يرسم على خريطةٍ بالية حدود ليبيا بأصابعٍ ملطخةٍ بدماء خصومه، مُستفيدًا من الفراغ الأمني الذي خلَّفته ثورة 2011. هو ليس الوحيد؛ فليبيا بأسرها مليئة بالطغاة الجدد يتنافسون على السلطة، مدعومين من دولٍ إقليمية تسعى لتعزيز نفوذها.
الدم هنا عملةُ الصعود. قتل و ترهيب المدنيين، واغتيالاتٌ تُسكت المعارضين، وصفقاتٌ مع جهات خارجية تُمول الحرب مقابل النفط أو النفوذ. ليبيا، التي حلمت بالديمقراطية، تحوَّلت إلى ساحةٍ لـ”أمراء الحرب” الذين يرثون أدوات القذافي ويضيفون إليها قسوةً جديدة. حتى المهاجرون لم يسلموا؛ فبعضهم يُستخدم كأوراق ضغط في صفقاتٍ دولية، أو يُرحَّلون قسرًا كجزءٍ من لعبة المصالح.
الطغيان لا يعترف بالحدود الجغرافية أو الثقافية. ففي أمريكا، يزدهر حين تتحالف الشعبوية مع إعلامٍ يُقدِّس الفرد، ويُحوِّل السياسة إلى مسرحٍ للعواطف. ترامب، الذي نجح في استغلال أزمات الهوية والاقتصاد، حوَّل خطاب الخوف من “الآخر” – المهاجرين، والأقليات،و الصين – إلى سلاحٍ لتوحيد قاعدة أنصاره، مُستفيدًا من تآكل المؤسسات الديمقراطية التي فشلت في كبح جماحه.
أما في ليبيا، فالطغاة الجدد ينمون في الفراغ الذي خلَّفته الحروب. انعدام الأمن، والانقسامات القبلية، والدعم الخارجي المشبوه – كلها عوامل تُسهِّل تحوُّل الميليشيات إلى دول مصغَّرة. انهم لا يختلفون عن القذافي في القمع، لكنهم أضافوا إليه شرعيةً مزيفةً من خلال تحالفاتٍ مع دولٍ تزعم محاربة الإرهاب.
لا يُمكن فهم صعود ترامب دون الإشارة إلى النخب السياسية والإعلامية التي دعمته لحماية مصالحها، تمامًا كما تعاون مسؤلون سياسيون ليبيون مع المليشيات تحت ذريعة “استعادة الأمن”. في كلا الحالتين، تُستخدم الأزمات كذريعةٍ لتبرير التجاوزات: ففي أمريكا، تُضعف الإدارة الجمهورية سلطة القضاء لتسهيل ترحيل المهاجرين، بينما في ليبيا، تُهمل الميليشيات القانون لتعزيز سيطرتها.
الدعم الخارجي أيضًا يلعب دورًا حاسمًا. فترامب يحصل على دعمٍ من دولٍ عربية في تحالفات استراتيجية، بينما تحصل الميليشيات الليبية على أسلحةٍ وتمويلٍ من دولٍ تتنافس على النفوذ في المتوسط.
الطغاة لا يسقطون إلا عندما ترفض الشعوب أن تكون أدواتهم. في أمريكا، لا تزال المؤسسات الديمقراطية – رغم ضعفها – قادرةً على مواجهة التجاوزات، كما حدث عند إحباط محاولات ترحيل المهاجرين غير القانونية. أما في ليبيا، فالأمل يعيش في حركات الاحتجاج المدني التي تواجه الميليشيات و الاجسام السياسية معا، رغم المخاطر.
لكن التحدي الأكبر يبقى في كسر التحالفات الخبيثة بين الطغاة المحليين والقوى الخارجية، وإعادة بناء العقد الاجتماعي على أسس العدالة والشفافية. وكما قال الكواكبي: “الاستبداد يُهزم عندما نرفض أن نكون وقودًا له”. ربما يبدأ التحرر عندما نتوقف عن تصديق أن “المنقذ” يحمل الحل في قبضته، أو أن الدم هو اللغة الوحيدة للسلطة.