منصة الصباح

مستقبل أهل وادي النيل بعد سد النهضة

الصباح-وكالات

بعد شهور ملتهبة من التفاوض وتَشدُّد مصري بإعلان فشل المفاوضات الفنية في نوفمبر الماضي، فوجئنا بعد نهاية الجلسة الأخيرة في منتصف شهر مايو 2018 بتهدئة عامة للأوضاع، والإعلان عن توصُّل إلى حلول لأغلب المشكلات العالقة.

يأتي هذا بعد اجتماعات دارت على هامش اجتماع قمة الاتحاد الأفريقي في أديس أبابا في بدايات العام الجاري بحضور قادة القارة، الذي حظي بخروج تسريبات تبدو وكأنها منطقية ولم ينفها أحد، نصت على أنه جرى الاتفاق بين الدول الثلاث على أن تقوم إثيوبيا بملء 45 مليار م3 في بحيرة سد النهضة خلال ثلاث سنوات بمعدل 15 مليار م3 كل سنة، خصمًا من حصتَي مصر والسودان.

الأمر غير العلمي والذي لا يخاطب عقول المتخصصين في موارد المياه هو: ماذا بعد ملء 45 مليارمتر مكعب  في السنوات الثلاث الاولى المقترحة؟ متى سيكتمل مخزون بحيرة السد إلى كامل سعته البالغة 75 مليار متر ؟ وما هو الخصم المتوقع بعد ذلك؟ ثم أليس بعد ثلاث سنوات ستبدأ إثيوبيا في ضخ هذا الحجم من المياه المخزونة إلى التوربينات لتوليد الكهرباء لتستنزف تمامًا هذا المخزون خلال عام واحد، والذي يقارب حجمه حجم تدفقات المياه التي تعودت مصر والسودان على تَسلُّمها سنويًّا من النيل الأزرق، ولا تتجاوز 48.75 مليار   ثلاثة متر مكعب كل عام.

يبدو أن مصر والسودان ستتسلَّم هذه الحصة من المياه كل ثلاث سنوات بدلًا من تَسلُّمها كل سنة، وأنها ستتسلَّم نصف هذه الكمية فقط سنويًّا في أثناء الملء الأول لسد النهضة. لتبدأ بعدها مرحلة إعادة تخزين 45 مليارًا أخرى في رحلة لن تنتهي أبدًا، ليظل هناك خصم دائم مقداره 15 مليار م3 سنويًّا، بخلاف البخر من مسطح بحيرة التخزين، والرشح العميق، والمياه المتناثرة من التوربينات في أثناء سقوطها من ارتفاعات لإدارة التوربينات، والتي نقدرها جميعًا بنحو 12 مليار متر مكعب سنويًّا.

وفي محاولة لتقييم الوضع المائي للدول الثلاث وتبعاته بعد أن أصبح سد النهضة أمرًا واقعًا، نرى أنه سيكون على الوجه التالي:

مياه فيضان النيل الأزرق ستكون من حق إثيوبيا وحدها لتضمن بها تمام امتلاء بحيرة السد، بخلاف مياه البخر والتسرب من قاع البحيرة، وبالتالي فإن اعتماد مصر على هذه المياه -والتي لا تقل عن 22 مليار م3 سنويًّا خلال السنوات السمان- سيختفي، وهي التي أنشأت من أجلها السد العالي ليحفظ لها هذه المياه لإعادة استخدامها في السنوات السبع العجاف.

مصير المياه في سنوات الجفاف -والتي تُعرف باسم السنوات السبع العجاف، والتي تلي سنوات الفيضان الغزير- أصبح مجهولًا، ولا رد من إثيوبيا بشأنها. فهل ستكون أولوية المياه الشحيحة للنيل الأزرق وقتها -والتي لا تزيد عن نصف تدفقاته- لتخزين المياه في السد الإثيوبي لتوليد الكهرباء؟ أم للسماح بضخها مباشرةً لشعبي مصر والسودان العطشى؟ خاصةً أن تدفقات النيل الأزرق تمثل حوالي 60% من إجمالي تدفقات نهر النيل، ويُعَد الرافد الرئيس المتحكم في النهر، كما أن النهر البديل -والذي يحمل أيضًا مياه فيضان جيدة، وهو نهر عطبرة- أقيم عليه سد تاكيزي، وبالتالي فقد أصبحت مياه فيضان كلٍّ من النيل الأزرق وعطبرة ملكًا خالصًا لإثيوبيا، بينما ستكون المعاناة من السنوات العجاف من نصيب مصر والسودان فقط.

لذا سيكون على مصر تغيير سياستها الزراعية؛ للتعامل مع زمن شُح مواردها المائية، بالاستغناء عن زراعات الأرز، وهو ما بدأته مصر فعليًّا بتقليص مساحات زراعته، وشرّعت قانونًا أقره البرلمان بحبس المخالفين وتوقيع غرامة مالية كبيرة عليهم.

وسيؤدي ذلك إلى استيراد مصر لنصف احتياجاتها من الأرز بعد تخفيض مساحات زراعته، والتي تقدر بنحو مليونَي طن سنويًّا من إجمالي 4 ملايين طن إجمالي استهلاكها الحالي من الأرز، وبالتالي ستنفق مصر سنويًّا نحو مليار دولار لاستيراد الأرز فقط.

كما أن عليها تحويل زراعات قصب السكر في صعيد مصر إلى زراعة البنجر في الشمال، بما سيزيد من معاناة أهالي الصعيد الفقيرة، التي تعاني من هجرة أبنائها إلى الشمال بسبب نقص فرص العمل، فزراعة قصب السكر في الصعيد توفر نحو 27 صناعة مكملة في مصانع إنتاج العسل الأسود والميثانول والمولاس وكوز السكر، والسكر النبات والخل والمقشات وغيرها، بما سيؤثر كثيرًا على زيادة نسب البطالة في الصعيد، هذا بالإضافة لضياع خبرات 150 سنة للمزارعين في زراعات قصب السكر.

هناك أيضًا حتمية لتخفيض زراعات الموز المستنزِفة للمياه إلى النصف على الأقل، وربما يصل الأمر إلى تخفيض مساحات الحاصلات الورقية العريضة مثل القلقاس والكرنب ومعها البرسيم والأعلاف، وربما يؤدي الأمر إلى تخفيض زراعات الموسم الصيفي الحار إلى النصف بسبب استهلاكها الكبير للمياه بسبب الحرارة.

كما سينتج عن تغيُّر السياسات الزراعية تملُّح أجزاء كبيرة من أراضي شمال الدلتا، التي تعاني من اقتحام مياه البحر المتوسط المالحة لتربتها ومياهها الجوفية السطحية بسبب تراجُع مساحات زراعات الأرز، وهي الزراعة التي تقوم بعمل الفيضان في السابق بغمرها لترب هذه المنطقة بالمياه لمدة أربعة أشهر، أضف لذلك احتمالات تزايُد غمر مياه البحر المالحة للدلتا بسبب ارتفاع مستوى سطح البحر نتيجةً للتغيرات المناخية، مما سيؤثر على نحو 4 ملايين مصري وغمر مليون فدان في هذه المنطقة.

ومع تفاقُم الفجوة المائية في مصر، من المتوقع زيادة الفجوة الغذائية لتزيد الصادرات الغذائية المصرية -والتي تكلف مصر حاليًّا نحو 12 مليار دولار سنويًّا- لتصبح من 15 إلى 17 مليار دولار سنويًّا.

ولمحاولة سد الفجوة المائية ستدخل مصر في معترك تحلية مياه البحر، وهي تقنيات مكلفة لا تناسب الدول النامية والفقيرة، مما سيضغط كثيرًا على مواردها المالية ويرفع من أسعار المياه، بالإضافة إلى قلة إنتاج هذه التقنيات للمياه؛ إذ لا يزيد إنتاج دولة الإمارات بإمكانياتها البترولية الكبيرة عن 5 مليارات متر مكعب سنويًّا، والسعودية وأمريكا ما بين 6.5 مليارات للأولى و6 مليارات للثانية، وهي كميات لا تُسهم كثيرًا في خفض الفجوة المائية الكبيرة لمصر، والبالغة حاليًّا 42 مليار متر مكعب مرشحة للزيادة بعد سد النهضة إلى 54 مليار متر مكعب سنويًّا.

توقُّف مياه الفيضان بعد سد النهضة عن المنطقة الشرقية للسودان -والتي كانت أراضيها تُغمر بالمياه أربعة أشهر كل عام، وتتم زراعة الحاصلات الاستراتيجية بعد انحسارها اعتمادًا على مخزون هذه المياه في التربة- يمكن أن يؤدي إلى تدهور أراضي ولايتي النيل الأزرق وكسلا؛ بسبب غياب غسيل أراضيها دوريًّا، بالإضافة إلى حتمية تحوُّل السودان إلى الزراعة المروية في هذه المنطقة، وتغيير نمط الزراعة الحالية.

وسيتطلب التغيير إلى الزراعة المروية لنحو مليون هكتار في الولايات الشرقية للسودان إقامة شبكة مكلفة من الترع والمصارف، تتطلب تدبير مليارات الدولارات، قد لا يتحملها الاقتصاد السوداني في الوقت الحالي.

إلا أنه إذا ما استطاعت السودان -بدعم إثيوبي أو بغيره- إقامة شبكة الري والصرف في أراضي ولايتي النيل الأزرق وكسلا، فقد يكون باستطاعتها زراعة الحاصلات الصيفية الإستراتيجية، خاصة القطن وزيوت الطعام البذرية والذرة الصفراء للأعلاف والخضراوات، بالإضافة إلى انتهاء أضرار الفيضانات على الأراضي والمنازل في الولايتين.

غير أن تحوُّل السودان للزراعة المروية وتوقف قدوم الطمي المخصب للتربة يعني أيضًا تحوُّل السودان إلى استخدام الأسمدة الكيميائية والمبيدات المضرة للبيئة والبشر.

وبرغم أن السودان قد يرى أن إقامة سد النهضة سوف يؤدي إلى منع الإطماء عن خزانات السدود السودانية سنار والروصيرص بما يزيد من سعة تخزينها للمياه، غير أنه لم تُطرح مسألة كيفية امتلاء خزاني السدين بالمياه بعد سد النهضة اللذَين يحتاجان إلى نحو 11 مليار م3 سنويًّا ودفعة واحدة، وهو ما يرجح أن السدين سيحتاجان إلى مدة طويلة من الزمن لامتلاء خزانيهما بالمياه.

ستستأثر إثيوبيا بمياه نهر النيل وحدها وتصبح المتحكم الوحيد فيما تصرفه من مياه إلى كلٍّ من مصر والسودان؛ بسبب غياب الاتفاقيات حول مستقبل تدفقات النيل الأزرق في المنطقة، والتي كان من المفترض أن تحدد حصص السودان ومصر وإثيوبيا نفسها.

ومن المتوقع أن تضمن بحيرة سد النهضة وجود نحو مليار هكتار من الأراضي القابلة للزراعة، والتي ستطرحها إثيوبيا للمستثمرين، بما سيستهلك نحو 10مليارات م3 سنويًّا من مياه البحيرة، ولهذا رفضت إثيوبيا النص في إعلان مبادئ الخرطوم على أن سد النهضة لتوليد الكهرباء فقط، وأصرت على إضافة عبارة ’وللتنمية الاقتصادية‘، بما يوضح نيتها في استغلال مياه السد في التنمية الزراعية والصناعية والسكانية وإعمار المنطقة، وهي أمور تتبع السيادة على أراضيها.

الأمور العالقة لا تزال كثيرة، وترحيلها ليس في صالح مصر ولا السودان، وفي العموم يمكن الجزم بأن الجزء الغاطس من جبل الجليد أكبر بكثير من الجزء الظاهر فوق سطح الماء، وأن ما يتم حاليًّا هو فقط ترحيل مشكلات وصراعات المياه لسنوات وأجيال قادمة.

شاهد أيضاً

بلدي زليتن يناقش إزالة التعديات على خط الغاز

ناقش عميد بلدية زليتن مفتاح حمادي، آليات إزالة التعديات على خط الغاز الممتد من مصنع …