محمد الهادي الجزيري
لم أكن أعرفها حقّا..، صديقة مدسوسة في قائمة الأصدقاء ..حتّى ورد اسمها على قلم الشاعر الكبير راشد عيسى ..، كيف وقع ذلك ؟، المسألة تتلخّص في أنّ صديقنا الشاعر أُعجب بإحدى نصوص عطاف جانم ..ووصل به الأمر أن درّسه إلى طلبته في الجامعة الأردنية ..، كنت قلقا أتصفّح الفيسبوك العجيب حتّى اطّلعت على ما كتب راشد عيسى فتوكلت على الله ..وطلبت منه أن يمدّني بنسخة من القصيدة ..فما كان منه إلاّ أن اتّصل بعطاف جانم ..التّي تواصلت معي ومدّتني بنسخة من القصيدة..التّي حرّضتني بأن ألتمس منها المجموعة كاملة وكان لي ما طلبت ..وها إنّي أقرأها لكم قدر الإمكان …ولنبدأ بالقصيدة التي شدّتني بقوّة …
” بعضُ هذا الغيم طفل عابثٌ
يقفز ما بين الشبابيك.. يغنّي
ينقر الدفّ
فيجري خلفه بعضُ الصغارْ
بعضُ هذا الغيم بنت للمكانْ
تغسل الأطباق
تُغلي قهوة السّمار
أو
تحمل (فنجانا) لنَجم يتمشّى في الجوارْ ”
إنّ ” أنسنة ” الغيم أبدع ما حاولته الشاعرة ..إذ أنّك سيدي القارئ ترى وتحسّ وتتذوّق كذلك وتركض خلف الغيم العابث في البيت..، إنّها محاولة ناجحة لبثّ الحركة والنفس لهذا الكائن التابع لمملكة الجماد..فيصير يقفز كالطفل ما بين النوافذ ويشدو ..ويحدث أن يمسي بنتا للمكان ..يقوم بمهمّة غسل الأطباق..بل أكثر من ذلك فيقّدم ( فنجانا لنَجم يتمشّى في الجوار) ..وأعتقد أنّ الشاعرة برهنت بتصويرها الأخير أنّها من طينة المبدعين الكبار..وهذا ما جعل الخطير راشد عيسى يخرج من صمته ويقول :
” ضمن الفراشات الشعرية في الديوان الأخير للشاعرة عطاف جانم قصيدة بعنوان غمامة..، أراها من بروق الشعر المعاصر…فهي تصور بكاميرا سوريالية مشهد الغيوم تدخل بيوت قرية غمامة اليمنية فتشارك الأسرة الألفة العائلية وتتجول بين أثاث البيت تتفقده وتمنحه روحا سماوية عذبة.. تقوم جماليات القصيدة على واقعية سحرية أيضا تشبه المشهد السينمائي الذكي…حين تلعب الغيمة دور البطولة..فتشهق نبضات البيوت اليمنية الشعبية المعلقة على رؤوس الجبال الشاهقة مثل الخرز الأسطوري…ثمة شعرية الغيمة وشعرية المكان المدلى من السماء على استحياء شجاع..وبذلك تكون عطاف قد سجلت بقصيدة واحدة إضافة إبداعية جليلة لتجربتها..قصيدة لوحة تشكيلية أيضا..لذلك عندما درستها لطالباتي في الجامعة شعرت بالأثر الجمالي الكبير لهذه القصيدة وانتابني غمام عذب من المسرة…”
تتمحور قصائد مجموعة “مدار الفراشات ” حول جرحنا العربي الذي ينزف ولا أحد يوقف نزفه، ففي قصائد مختلفة تُشعرك الشاعرة أنّها ابنة الأرض وخادمتها الوفيّة ..نرى ذلك في قصائد مثل :
ـ ترابها يا نور..وهي قصيدة تتضّمن إشارة إلى الشاعر نور عامر القادم من عكا في زيارة لرابطة الكتّاب الأردنيين في عمان لأوّل مرّة، وقد استغرب إذ سألوه الحاضرون أن يأتي في المرّة القادمة بحفنة من تراب عكا
ـ في القدس ..وعد بالحياة..وهي من وحي الشاعر الشهيد عبد الرحيم محمود كتبها لأمير من الأمراء أثناء زيارته لفلسطين قبل ثلاثين عام من احتلال المسجد الأقصى… يقول فيها :
” المسجد الأقصى أجئت تزوره ………. أم جئت من قبل الضياع تودّعهْ ”
وتقول عاطف جانم
” يا وحدهم
أهل المدينة نحوه يتطايرونْ
يا وحدهم
من يسمعون صهيل جرح إذ تحوم بلحمهم سكّينهم
تقتصّ للأوغاد ما يتخيّرونْ
هم وحدهم
أهل الرباط يقاتلون فيُقتلون ..ويقتلونْ ”
وتمضي عاطف في ذكر أسماء العواصم وما يدور فيهم من خور وسلبيات كثيرة
تتألّف مجموعة ” مدار الفراشات ” من عشرين قصيدة وقد أهدتها الشاعرة إلى البراعم عسى أن تشقّ طريقها نحو الشمس ، ويتصّدرها تقديم الأستاذ الدكتور يوسف بكّار أستاذ النقد الأدبي بجامعة اليرموك سابقا ..وممّا ورد في كلمته البليغة
” وممّا يسترعي الانتباه ويلفت النظر في الديوان أنّ الشاعرة تمتلك ناصية القدرة على التركيز والإيجاز والاختطاف السريع الدّال فيما علّقت به فنّيات أشعار قصائدها وأوقدت مجامر شعريتها …فهي لا تطيل و لا تتوسّع وتسترسل ، بل تستلّ بعناية ما يحتاج إليه الموقف والرؤية وتوظّفه توظيفا دلاليّا دقيقا ..”