( 1953 ـ 2017 )
أحمد الفيتوري
” أختار من بين اللغات: الصخر
من بين الجهات: الفقر
من بين المرايا: وجهها…”
محمد الهادي الجزيري
المعرفة بحر ..محال الإحاطة به ..، أقول هذا مستغربا من جهلي لتجربة فريدة لشاعر ليبي متميّز اسمه محمد الفقيه صالح ..رغم أنّ لي ربع قرن خبرة وتعارف واحتكاك بالأدب الليبي ولي علم بالأغلبية الساحقة لمثقفيه وفنانيه وصحفييه ..، ومع ذلك كان عليّ انتظار قدوم أحمد الفيتوري إلى تونس ..وإهدائه لي كتابه ( محمد الفقيه صالح / قصيدة طرابلس الغرب ) لأفتح الكتاب وأوغل فيه متعجّبا من جهلي لهذا الشاعر الفذّ رغم أنّه فارقنا سنة 2017 ..، هذا درس لي ولغيري المتبجّحين بسعة المعرفة ..كي نتواضع فالعلم لله وحده …
من ضمن ما ورد في هذا الكتاب الجامع ..حوار شامل أجراه أحمد الفيتوري يكشف فيه سيرة هذا الشاعر السبعيني منذ بدايته ..وقد وجدت فيه غايتي ..وتعرفّت على شخصية محمد الفقيه صالح ومواقفه وهواجسه ..، فعن سؤال كيفية التورّط في الشعر ردّ بطلاقة وصراحة فقال:
” ترجع المفاوضات الأولى والاقتراب المرتعش المتهيب من عالم الشعر إلى أواخر الستينات، حينما أصبحت مأخوذا في سني الصبا والفتوة تلك بسير الشعراء الإعلام عربا وليبيين، قدماء ومعاصرين، وما كانوا يحظون به في ذلك الزمان من مكانة مرموقة لدى الضمير العام …، الإيقاع الموسيقي في كلام الشعر هو المصيدة الأولى التي طبقت على روحي الطرية آنذاك، هكذا بدأ الأمر فيما يشبه النزوة حقا، …. لذا أصبح الشعر ورطة حقيقية، ليس فقط من خلال محنة الكتابة الشعرية ومكابدتها، بل كذلك من خلال اصطدامه بالمرجعيات العامة…”
وفي قراءة أخرى لعمر أبي القاسم الككلي يتناول فيه الشاعر والكاتب المحتفى به وينظر في دراسته ” في الثقافة الليبية المعاصرة ” ..يشرح لنا كيف أنّه كان لاحما لكلّ الأجيال فهو لا يميّز جيلا دون سواه ..وممّا قاله في هذا الصدد:
” …لكن محمد الفقيه صالح، باعتباره مثقفا وشاعرا وكاتبا وطنيا، لا يقتصر على تناول أعمال مجايليه، إذ إن الاقتصار على ذلك يُعد خروجا عن منهج الرؤية الوطنية التي ينتمي إليها التيّار العريض في أجيال الثقافة الليبية المعاصرة قاطبة، هذه الرؤية الوطنية، التي رغم إيمانها بالتطور الثقافي، لا تؤمن بالقطيعة بين الأجيال والبداية من الصفر، وإنّما تؤمن بالتراكم والامتداد، لذلك نجد مبدأ التواصل الثقافي لاحما مواد الكتاب ..”
ثمّة دراسة قيّمة كتبها حلمي سالم بعنوان : ” كيف توارى شاعر الحداثة المضيئة في غياهب الظلام ” سلّط الضوء على عدّة نقاط هامة في حياة الراحل ..فمنها نعرف أنّه درس في القاهرة في النصف الأول من السبعينات بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية ..وأنّه عمل في الخارجية الليبية عام 1976 ..ثمّ سجن صحبة نخبة من شباب الأدب الليبي الوطني مدة 10 سنوات كاملة ..، أصدر ديوانين هما ( خطوط داخلية في لوحة الطلوع ) و الثاني بعنوان ( حنوّ الضمة سموّ الكسرة ) …..
” إنّ الكتاب يضمّ مقالات عدّة ومتنوعة، وكذلك حوارات مع الشاعر تبيّن العلامات الرئيسة لتجربته الإبداعية التي دامت لما قارب النصف قرن، لكن أهمّ ما يرصده القارئ الحصيف احتفاء الشاعر بالحياة، وصنوها الحرية ..”
أختم اكتشافي لهذا الشاهق الشعري وفرحي بدرره الثمينة ..شاكرا لأحمد الفيتوري على هذه الهديّة القيّمة ..وأترككم مع مقطع باذخ ..يصهل فيه محمد الفقيه صالح :
” الحلم يا محبو بتي زادي
دم الرؤيا الذي أحيا به
موتي وميلادي
والحلم ميعادي
وذاكرة الهوى المخضرّ في وجه الخريف
والحلم لم يصهر دمي صهرا
ولم يشهق عميقا في يدي جرح الرغيف
هذا اعترافي
فاشهدي..”