حنان علي كابو
بين الموج والألوان، وفي مدينة لا تعرف أن تعيش بلا بحر، يواصل محمد حسن الشركسي رحلة بحثه عن الفن، رحلة بدأت متأخرة لكنها نضجت ببطء وثقة. يصف نفسه ببساطة قائلاً:
“أرى أن كلمة فنان كبيرة عليّ كشخص مبتدئ أو متدرّب مثلي، فأنا ما زلت في مرحلة البحث عن مفهوم الفن الحقيقي، وهو بحث يتطلب وقتًا وتجربة مستمرة لتطوير الأدوات الفنية والثقافة الفكرية والبصرية، ولم أصل بعد إلى تلك المرحلة المتقدمة. لذلك، أفضّل أن أطلق على نفسي لقب متدرّب متقدّم، وهو ما يمثل موقفًا فكريًا تجاه تراتبية الفن.”

الرسم بعد الأربعين: وعي متأخر بنكهة النضج
حين بدأ الشركسي دراسة قواعد الرسم الزيتي بعد سن الأربعين، اكتشف المعنى الحقيقي لما يُنجزه:
“لقد منحتني بداية دراسة الرسم الزيتي بعد سن الأربعين فهمًا حقيقيًا لقيمة ما أُنجزه. كنت محظوظًا بتدربي على يد الفنان القدير محمد البرناوي في نادي عوض عبيدة للفنون التشكيلية، الذي كشف أمامي خيوطًا ومسائل فنية عميقة لم أكن لأتعلمها لولاه. أصبحت نشطًا جدًا وسعيدًا بما أقوم به، وأيقنت أهمية الوقت في حياة الإنسان، وأن التعلم يجب أن يستمر مادام الإنسان حيًا.”
البحر ذاكرة الطفولة ومرآة المدينة
يرتبط البحر في لوحات الشركسي بذاكرة المكان والطفولة:
“علاقتي بالبحر قصة قديمة تمتد إلى جذور أجدادي. فأنا ابن منطقتي خريبيش والصابري. وُلدتُ بين مراكب الصيد والأمواج وطيور النورس (البوحوام) والأسماك. قضيت طفولتي كلها بين شاطئ الشابي، والكبترانيا، والصابري، ووسط المدينة بشوارعها ووجوه ناسها. ومنذ الصغر كانت تستهويني حركة الموج وتدرجات ألوانه، وأحب الأمواج القوية أكثر من البحر الهادئ.
ربما هذا هو السبب الذي يجعلني أميل لا شعوريًا إلى رسم كل ما له علاقة بالبحر، وخاصة الأمواج.”
ثم يضيف مؤكداً:
“هناك علاقة عميقة في نفسي تربط شاطئ البحر وأمواجه بمدينتي بنغازي، التي كانت وما زالت مركزًا مهمًا في البحر المتوسط. فلا أستطيع تخيل بنغازي بدون البحر، والعكس صحيح.”

المنفى البصري: أوروبا كنافذة للون
عن أثر الاغتراب في تشكيل وعيه الفني يقول:
“الإنسان ابن بيئته، ولكن لا يمكن إنكار تأثير الأماكن والثقافات الأخرى في تشكيل وعيه. لقد منحني وجودي في أوروبا لفترة بُعدًا جديدًا لم أكن أعهده، لاسيما فيما يخص الثقافة البصرية والفنية. فمشاهدة أعمال عمالقة التاريخ الفني مثل كارافاجيو ورامبرانت وتيرنر، تترك في النفس أثرًا عميقًا يتجسد في إدراك طريقة تلوينهم وعمق أبعادهم وتكوين المشاهد التي رسموها.”
ويتابع:
“هؤلاء الفنانون أبناء بيئتهم بالضرورة، فالألوان الداكنة وضبابية السماء سمة طاغية هناك. إن تأثير المحيط على الفنان أمر حتمي، لكن الفن ذاته يتجاوز حدود الأمكنة والأزمنة. تأثر فان جوخ بالشموس الحارقة في شواطئ فرنسا رغم أصوله الهولندية، كما تأثر المستشرقون بسحر الشرق. لذلك، أرى أن كل ما يختبره الإنسان يندرج في مخزونه الثقافي والفكري، وأعتقد أنني تأثرتُ بهذه الألوان والأجواء الأوروبية السائدة.”
“مسودة”.. وعد بالاكتمال
عن معرضه الثنائي الذي حمل عنوان “مسودة” يقول الشركسي:
“سُمّي المعرض بـ مسودة لأن تجربتي أنا والفنان ناصر البراني ما زالت في طور التجربة والتطوير ولم تكتمل بعد. اعتقدنا أن الكلمة مناسبة جدًا لمرحلتنا، وهي أيضًا تعني البداية في مسيرة نتمنى أن تتكلل بالنجاح. وربما قصدنا بها أيضًا بداية مشروعات فنية وثقافية نتمنى انتشارها في مدينة بنغازي وكل ليبيا، ليس فقط منّي شخصيًا، ولكن من كل الفنانين التشكيليين في ليبيا.”
الناقد في المرآة

رغم تواضعه في تعريف نفسه كناقد، إلا أن حضوره في المشهد النقدي واضح:
“لست ناقدًا بالمعنى الحقيقي للكلمة، ولكني أُعدّ من المهتمين أو أصحاب الرأي في الأعمال الفنية والحركة التشكيلية، خاصة في ليبيا. ربما يرجع هذا إلى خلو الساحة التشكيلية الليبية من النقاد، مما جعلني أكتب باستحياء بعض المقالات والقراءات المتواضعة، على أمل أن تكون ذات فائدة في إثراء وتطوير حركة النقد التشكيلي الليبي.”
ويضيف:
“أعتمد في ذلك على مخزوني البصري والثقافي الذي اكتسبته خلال سنوات الغربة، وأحرص على توظيفه بموضوعية في الساحة التشكيلية. وهذا ما يجعلني في أغلب الأحيان أشاهد الأعمال بعين الزائر أو المراقب الخارجي.”
اللوحة التي لا تكتمل
وحين يُسأل عن علاقته باللوحة بعد إنجازها، يجيب ..
“يقول بيكاسو: لا توجد لوحة مكتملة. ويقصد بذلك أنني كلما أنجزتُ عملاً واعتقدت أنني انتهيت منه، أعود إلى اللوحة لإجراء تعديلات واكتشاف أخطاء كأنني لم أرها من قبل. فاللوحة عمل مستمر ومحطة في الوقت نفسه؛ محطة يُفترض بها أن تنقل الفنان إلى محطات أفضل، فكل لوحة تُعد لبنة أساسية في بناء التجربة الفنية.”


سيرة الفنان
محمد حسن الشركسي، فنان تشكيلي من مدينة بنغازي، تَفتّح وعيه الجمالي بين الموج والضوء ورائحة الميناء. بدأ رحلته مع الفن متأخرًا، بعد أن تجاوز الأربعين، لكنه دخلها بشغفٍ يُشبه اكتشاف حياة ثانية. تتلمذ على يد الفنان الكبير محمد البرناوي في نادي عوض عبيدة للفنون التشكيلية، وكان أحد المساهمين في تأسيسه، ليجد في الرسم مساحة للتأمل والتعبير، لا مجرد ممارسة تقنية.
يحمل الشركسي ماجستير في الاقتصاد السياسي ويعمل في القطاع الخاص، غير أن بوصلته الروحية ظلت تشير نحو الفن.
في أعماله، يتحوّل البحر إلى كائنٍ حيّ، يتنفس ألوانًا وذاكرة وحنينًا، بينما تظهر بنغازي في لوحاته كمدينة تسبح بين الضوء والملح، كأنها تحلم بذاتها من جديد.

شارك في معرض “أوكر” الجماعي عام 2018 ببنغازي، وفي المعرض الثنائي “مسودة” مع الفنان ناصر البراني، الذي شكل تجربة مفتوحة على الاحتمال والاكتشاف.
بين لوحاته ومقالاته النقدية المتواضعة، يمارس الشركسي نوعًا من الحوار الداخلي بين الفنان والناقد، بين الموج الذي يندفع، والعقل الذي يتأمل.
يرى أن الفن ليس محطة وصول، بل مسار معرفة مستمر، وأن كل لوحة هي مسودة للحياة تُكتب باللون وتُكملها التجربة.
منصة الصباح الصباح، منصة إخبارية رقمية