منصة الصباح

لَيْلَةُ الخَوْفْ… وَالعَجْزِ المَوْصُوفْ

باختصار

كانت الساعة تشير إلى الواحدة بعد منتصف الليل، حين توقف الزمن فجأة داخل منزلٍ صغير، يسكنه أب يحتضن أطفاله بالنظر لا باليد، ليس لأنه لا يريد؛ بل لأنه لا يستطيع.

 كان الرصاص يملأ الأجواء، النوافذ ترتجف، والجدران لم تعد درعاً يحتمي به من في الداخل… بل غدت جدران سجن، وحدود خوف، وخرسانة عجز.

     لكم أن تتخيلوا المشهد، أمام عتبة باب البيت مباشرة، تقف سيارة (14 ونص)، محملة بشباب مسلحين، يتهامسون في الأزقة، يتنقلون محنيي الظهور بحذر شديد، كأنهم أشباح تتسلل بين أنفاس الليل، أعينهم تترصد، وملابسهم مدججة بشتى أنواع الأسلحة، بل إن منهم من بدا أشبه بشبح هائم، لا يرتدي سوى سروال قصير، وحافي القدمين، كأنه خرج على عجل من كابوس لم يكتمل.

     ليلة أيقنت فيها أن حرب الشوارع ليست فقط في الخارج، بل إنها تدخل البيوت بصمت، تهز الأرواح، وتخلخل المعاني التي كنا نعتبرها مسلمات، أولها الأمان.

في تلك اللحظة، لم تكن المشكلة في ضجيج الرصاص، بل في الصمت الذي يملأ صدري، أسئلة تتزاحم داخل عقلي: هل أوقظ أطفالي؟ هل أضعهم أمام الحقيقة المرة؟ هل أحملهم إلى المجهول؟ أم أتركهم ينامون، على أمل أن تمر العاصفة دون أن تطرق أبوابهم الصغيرة؟

      استجمعت قواي وفتحت الباب الخارجي المطل على الشارع، نظرت إلي كل الوجوه الموجودة أمامي، وتلك التي تتخذ من جدران المنزل مسنداً… كنت أريدهم أن يغيروا موقع هذه السيارة، لكن ردهم كان حازماً وصارماً: (خش داخل وسكر الباب).

    لا أدري لماذا لم أخف؟ رغم أن المشهد يستدعي مشاعر الخوف بل الرعب أيضاً، لكن كان يتملكني ما هو أعمق وأشد منهما… إنه العجز.

      أن تكون أباً وتعجز عن حماية أطفالك، أن تسمع كل شيء ينهار حولك ولا تملك أن تفعل شيئاً سوى الدعاء، أن ترى البراءة نائمة أمامك، وتعرف أنك لا تملك لها من أمرها شيئاً.

     أعرف أنني لم أكن الوحيد الذي مر بهذا الشعور تلك الليلة، بل كانت وجوه كثيرة تسهر على الخوف، وقلوب تنبض بالعجز في كل زاوية من عاصمتنا التي نحب، على يقين أن هذه القصة تكررت في الأحياء الضيقة، وفي بيوت لا صوت لأصحابها، تكررت وإن بصور مختلفة… لكن السبب واحد هو غياب الأمان.

     ليلة طويلة ثقيلة ومزعجة…. تعلمنا منها أن الأمن ليس رفاهية، الأمن ليس ترفاً نتحدث عنه في المؤتمرات، أو شعاراً نكتبه في جدران المنصات.

    الأمن هو الأساس الذي تبنى عليه كل تفاصيل الحياة: حين يذهب الطفل إلى مدرسته وهو يحمل حقيبة كتب لا حقيبة إسعافات، حين ينام الأب مطمئناً أن بيته بيت، لا تكنة عسكرية، حين تغفو العيون بلا قلق، وتصحو بلا خوف أو هلع.

    في لحظة واحدة، يتحول الإنسان من كائن طموح وحالم… إلى كائن يبحث فقط عن النجاة، وكل ما يبنى في غياب الأمان هش. هش كحياة يُمكن أن تنهار عند الواحدة فجراً، برصاصة طائشة من شخص مجهول.

    ما حدث تلك الليلة ليس مجرد قصة شخصية، بل نداء… نداء صادق وصارخ: احموا الناس، اصنعوا لهم وطناً يشعرون فيه بالأمان، فلا شيء يكسر الإنسان مثل أن يجبر على الاختيار بين الموت أو العجز أمام من يحب.

د. علي عاشور

شاهد أيضاً

التأمين الصحي.. حق للجميع أم امتياز للقلة؟

أحلام محمد الكميشي بلغ إنفاق وزارة الصحة الليبية نحو مليار ونصف دينار خلال الأشهر الأربعة …