منصة الصباح

” لم يبق من العمر إلا ساعة، فاحك لي وقائع ما لم يحدث ” عيسى جابلي

محمد  الهادي الجزيري

أذكر أنّي دعوته منذ سبعة أعوام تقريبا..، وكان ضيفي في برنامج إذاعي ..، اكتشفت فيه مبدعا يكتب بأسلوب غير معتاد فيه الكثير من التشويق والجمال، لا يكشف لك سرّ الحكاية أو لغزها إلا مع النهاية ..أو يدعك تبحث عنها بالعودة للقراءة والتمحيص والتفكير العميق في ما طرحه عليك من وجهات نظر حول موضوع ما ..، وها هو يصدر مجموعة قصصية جديدة بعنوان ” وقائعُ ما لم يَحدثُ ” سأطلع عليها ثمّ أقدّمها لكم ..وأعرّف بمبدع  في مجال السرد ..وأتكهن له بمستقبل باهر ومتميّز في ميدان القصة التي خُلقَ كي يكتبها ….

حين تقرأ القصة الأولى ” راهبة الزمن الجميل ” تدخل في جوّ عاطفي حميم وتوغل في نفسية شاب يحبّ الحياة ويقدّسها ..يتعرف على اسبانية تعمل بكنيسة شارع  ويتودد لها إلى أن تلين ..وبغتة يفرّ منها :

” وجدتني أنزل السلالم وفي رأسي يضطرب سيل من الأفكار والهواجس..كنت أتمتم كعجوز : لستِ لي ..لستِ لي ..”

ففي النهاية يردعه الوازع الأخلاقي على أن يشوّه سمعة راهبة جاءت إلى بلاده وهي أمانة في رقبته خاصة أنها قالت :  أشعر أني في وطني …، وأقتطع من هذه القصة هذا المقطع الذي يصف فيه الشاب الاسبانية وهي تخطو في الشارع الكبير:

” كانت تسير على إيقاع روعي بخطوات منتظمة كدقّات ساعة حائطية، تكنس الشارع بعينيها، لم ترفع رأسها،

لم تلتفت،

لم تتعثّر،

لم تقع،

لم تكلّم أحدا،

فقط ..مرّت.

منذ ذلك اليوم، رابطت في مقهى ” القدّيس ” أياما، فعلمت أنها راهبة، ورصدتها يوما وهي تغادر الكنيسة من باب خلفيّ، فتشقّ النهج الذي أجلس فيه ساعات طويلة في انتظار فسحة القمر في وضح النهار، وذات انكسار، وجدتني أسير خلفها حاملا قلبي بين يديّ”

ثمة قصة بعنوان ” أحجار في حضرة الأقحوان ” تتضمن خدعة سردية ..ففي أغلب فقرات المتن القصصي يُخيّل للقارئ أنّ الحديث حين يتطرق إلى ” دادا ” ومرضها وسواد لونها وعجزها يعتقد أنّ الراوي يقصد ” الأمّ ” ولكنه يكتشف في نهاية السرد أنّها الشجرة التي ينوي مع ” راوية ” أخذ مباركتها ..وتلك خصلة من خصال عيسى جابلي في فنّ القصة ..في خاتمة السرد يقول الراوي :

” بلغ البيت وعاد إليها يحمل منشارا وهي ذاهلة تهذي:

ـ لا تقطعها..إنّها أمّنا..لا تؤلمها..

أمّا هو فقد صعد وسطها في عزم وراح يقطع فروعها المتشابكة، وقد تراصّت وأغلقت منافذ الهواء أن تدخلها، وأوصدت أبواب الشمس أن تلامس قلبها ”

” الرأس مكمن الداء ، إذا فسد فقد فسد حامله ”

بهذا السطر المكثّف أفتتح الحديث عن قصة ” خمس رصاصات.. لنجمة شاردة ” التي تعرض فتاة تعمل صحفية وسجينا في حالة فرار ..يكونان حبيبين ثمّ تفرّقهما الحياة ..لذلك اخترت السطر المعبّر لعيسى جابلي لكي نفهم المشكل الأساسي لهذا الحالة التي تطرّق إليها والتي نعيشها …فالرأس هو بيت الداء ..وإذا ألمّ به مرض فسد من يحمله فوق كتفيه ..ومن يظنّ أنه في مأمن فهو واهم ..حتّى إن ندم وحنّ للحياة الحقيقية ودفئها ..ستصله رصاصاتهم الغادرة :

” … كيف سقط المسدس من يده واندفع نحوها كاشفا وجهه فاتحا يديه لاحتضانها ؟ رفعت يديها تتهيّأ لضمّه إليها، لمحت سوادا داكنا في الرصيف المقابل،أطلق السواد خمس رصاصات حاسمة اخترقت ظهر أمجد بقسوة..”

علما أنّ عيسى جابلي أصدر قبل هذا الكتاب مجموعتان قصصيتان هما :

ـ أزياء لقصائد السيدة سين ـ 2014

ـ وكأن أمضي خلف جثتي ـ 2016

وله كتاب أكاديمي بعنوان الفكر الكاثوليكي المعاصر والآخرـ 2016

ونرجو له مزيدا من النجاحات والتألق لما فيه خير الأدب العربي ….

 

شاهد أيضاً

فئة الخمسين… وحال المساكين

باختصار بقلم د. علي عاشور قبل أيام انتشرت في مواقع التواصل الاجتماعي صور لقرار خازن …