طارق القزيري
يوافق يوم الخميس الثامن عشر من ديسمبر الجاري 2025، اليوم العالمي للغة العربية، وفي كل عام، ننبري ندافع ونرافع عن أهمية حماية اللغة العربية، وكونها لغة القران الكريم والإسلام، وكل المزايا المعلومة لدينا بالتواتر والتكرار.
وباعتبار أن وضع اللغة العربية الآن، هو في وضع لا يمكن وصفه بالجيد مطلقا، فحتى خريجي الجامعات، لا يزالون بعيدين تماما عن صحة الأملاء والكتابة، ناهيك طبعا عن القواعد والنحو، وإذ اعتاد الليبيون، على وصف الشيء المشين، أو على الأقل غير المرغوب بنسبته للــ “عدو” كأمنية، مثل قولهم “حال عدوك”، في ذم الحال، وغيرها من هذه التركيبات، فلغتنا العربية عند المجموع الغالب هي: “لغة عدوك” بالضبط.
ألا يكون من المفيد ان نقلب السؤال: هل حماية العربية تعني ان نغلق المدرسة عليها وحدها؟
فكرة “التعدد اللغوي” ليست بدعة مستوردة، بل واقع تشريعي ومناهجي قائم بدرجات مختلفة، فالبرلمانات بعد ثورة فبراير اقرت تدريس اللغات العرقية في ليبيا، والانجليزية تدرس في التعليم الأساسي بالفعل، وما ينقص هو الفلسفة التربوية التي تضع العربية في القلب، وتضع بقية اللغات في وظيفة “تعزيز التفكير” لا “مزاحمة الهوية”.
الحجة المركزية التي تقلب الجدال هي التالية: اللغة الثانية لا تسرق العربية حين تكون العربية قوية في المدرسة، بل قد تعيد اليها جزءا من قوتها عبر ما يسميه التربويون الوعي اللغوي.
الطفل حين يتعلم لغتين يتعلم تلقائيا مهارة المقارنة: كيف يتغير المعنى عندما يتغير ترتيب الكلمات؟ لماذا توجد صيغة زمن في لغة ولا توجد في اخرى؟ كيف اعبر عن فكرة واحدة بتركيب مختلف؟ هذا التدريب لا ينتج “لسانا اضافيا” فقط، بل ينتج عقلا اكثر انتباها للبنية والمعنى والحدود، وهذه هي لب مهارات الكتابة العربية الجيدة: الدقة، والاقتصاد، والقدرة على بناء جملة تخدم فكرة.
تقرير احصائي كندي عن تقييم القراءة (PISA 2000) اشار الى ان طلاب الانغماس الفرنسي – لغتهم الام الإنجليزية – ادوا في القراءة بشكل افضل من نظرائهم غير المنغمسين – فرنسيين بالأصالة اللغوية- في اغلب المقاطعات. الفكرة ليست ان ننسخ كندا، بل ان نثبت مبدئيا ان “تعدد اللغات” ليس عدوا بحد ذاته للغة الام، عندما تصمم المنظومة بعقل.
على مستوى السياسات الثقافية، هذا المنطق ينسجم تماما مع شعار اليونسكو لليوم العالمي للغة العربية 2025: “افاق مبتكرة للغة العربية: سياسات وممارسات من اجل مستقبل لغوي اكثر شمولية”. ولكن كيف يمكن ذلك ؟
اولا: العربية هي لغة الكفاية المدرسية. هذا يعني ان الهدف الصارم في السنوات الاولى يجب ان يكون بناء قارئ عربي حقيقي: فهم المقروء، تلخيص، كتابة جمل سليمة تحمل معنى، ثم تدريجيا كتابة فقرة وحجاج بسيط.
اللغة الثانية تأتي بوصفها مساحة تدريب اضافية على الفهم، يصبح المطلوب مهارة واحدة مشتركة: استخراج الفكرة الرئيسة من سطرين، وصف صورة بجملة دقيقة، التمييز بين الخبر والرأي، تكوين اسئلة، ثم اعادة هذه المهارة في العربية ايضا. هكذا تصبح الانجليزية اداة لتقوية عضلات التفكير التي تعود مباشرة الى العربية.
ثانيا: اخطر ما يمكن فعله هو ان نصنع في وعي الطفل ان العربية “لغة واجب” والانجليزية “لغة مستقبل”، عندها نخسر الاثنتين: العربية تفقد هيبتها المعرفية، والانجليزية تتحول الى وهم طبقي.
ثالثا: لغات المكونات الليبية ليست “ترف هوية”، بل فرصة تربوية دقيقة في المناطق الناطقة بها. القانون الليبي الذي يتيح تعلم الامازيغية والطوارقية والتباوية اختياريا للناطقين بها يمكن ان يقرأ كسياسة اندماج: الطفل الذي يشعر ان مدرسته لا تسخر من لغته البيتية ولا تخجل منها، يكون اكثر استعدادا لتلقي العربية بثقة، لا بخوف او مقاوم. وفي النهاية، العربية لا تنتصر في مجتمع متوتر مع ذاته، بل تنتصر في مجتمع يشعر ان العربية بيت مشترك لا شرط اقصاء.
رابعا: المعركة ليست ضد التعدد اللغوي، بل ضد رداءة التعليم. حين يشتكي الناس من “كثرة اللغات” فهم غالبا يشتكون من تدني الجودة: معلم غير مؤهل، كتاب لا يناسب عمر الطفل، غياب مكتبة مدرسية، تقييم قائم على الحفظ، وحصص مكدسة بلا هدف. عندها تضعف العربية نفسها، فتبدو اللغة الثانية سببا، بينما هي مجرد مرآة كشفت الخلل. الفكرة ببساطة: القضية ليست عدد اللغات، بل جودة التصميم التربوي، من المنهج إلى المعلم إلى التقييم.
خامسا: أمثلة مثل لبنان تستفز النقاش العربي لأنها تلمح إلى حقيقة محرجة: المشكلة ليست في تعدد اللغات، بل في طريقة إدارتها. حين تُعامل اللغات كرأس مال معرفي تنشأ تقاليد ترجمة ونشر وتعليم وإعلام، ويمكن أن يتعايش ذلك مع حضور عربي قوي.
أما الانغلاق على لغة واحدة فلا يضمن قوة هذه اللغة.
والقول الذي – أراه – يستحق اليوم العالمي للغة العربية في ليبيا ليس مقال دفاع عاطفي عن العربية ضد “الغزو”، بل مقال دفاع عقلاني عن العربية بوصفها لغة تفكير.
العربية لا يهددها وجود لغات المكونات أو الانجليزية، بل يهددها ان تتحول في المدرسة الى مادة قواعد بلا معنى، واملاء بلا قراءة، وانشاء بلا حجج.
اما حين نصنع من العربية لغة فهم ومقارنة وكتابة، فكل لغة اضافية تتحول الى رافعة: تزيد انتباه الطفل، وتوسع ذاكرته الدلالية، وتعلمه ان الفكرة لا تعيش في كلمة واحدة، بل في طريقة ترتيب العالم داخل عقل الطفل، أي المرأة والرجل لاحقا.
منصة الصباح الصباح، منصة إخبارية رقمية