زايد …ناقص
بقلم /جمعة بوكليب
كلما ازداد المرء تقدماً في العمر، يتُوقع له – مالم يكنْ فاقداً لقواه العقلية – أن يزداد خبرةً في تجارب الحياة، وبالتالي، نضجاً عقلياً ونفّسياً، يُسهّل له، ويُساعده على التعامل مع مجريات الواقع وتقلباته ومشاكله المعقّدة، بشيء من تروٍ وعقلانية، مكتسبين، عادة، من استيعاب تراكم تجارب الماضي، وعلى أمل التمكن من تجنّب خروج قطار حياته عن مسار قضبانه، وتفادي ما يخلقه ذلك من قلق وتوتر، وبغرض تحقيق نوع من التوازن الحياتي، نفسياً واجتماعياً، يقود إلى نوع من الرضا عن الذات. هذا التوقّع، ربما يجعلنا نعتقد أن الحكمة َصنوٌ للتقدم في العمر، ولا تكتسب إلا بتمكن المرء من خوض تجارب العيش لسنوات مديدة، وفي ظروف مختلفة. وهذا يتضمن أن الأصغر سنّاً منّا، عليهم الانتظار لأعوام وأعوام، حتى يتقدموا صعوداً في درجات سلالم العمر، لكي يقتربوا من مضارب الحكمة، ولكي يتمتعوا بما تضفيه على حيواتهم من معنى وراحة.
هذا على الأقل، ما كنت أظنّه، ورسخ في ذاتي مما تعلمته من الثقافة المتداولة والسائدة، إلى أن وقعتُ صدفة، مؤخراً، على رواية عنوانها “رجالُ التحرّي المتوحشون” مترجمة إلى اللغة العربية، لكاتب من تشيلي، توفي في السنوات الأخيرة، اسمه روبرتو بولانيو. أنا هنا لست بصدد التعرض لمجريات الرواية الطويلة( 820 صفحة) وأحداثها، وعالمها الثري. لكنّي في جزئها الأخير، عثرتُ على جملة جاءت على لسان احدى الشخصيات، وهو محام وشاعر، في لحظة تفكير مع نفسه، يصل خلالها إلى قناعة بأن الحكمة لا علاقة لها بالتقدم في العمر بل بالفطنة. أستوقفتني الجملة. وأعدت قراءتها مرتين أو ثلاثا، ثم أغلقت الكتاب، واستغرقت في التفكير في فحـــــــــواها. وتبيّن لي بعد تأمل عميق أنها ( أي الجملة)، قضتْ بضربة واحدة على ما كنت أظنّه وأعتقده بديهة مسلم بها، ولا تقبل نقاشاً، ترسّخت في عقلي. وهذا، بدوره، قادني إلى تقليب الصفحات في ذاكرتي، بغرض المراجعة. ياآلهي: كيف لجملة صغيرة بهذا الحجم، مغمورة بين سطور رواية طويلة، تنبثق بشكل مفاجيء وتقلب قناعاتنا المكتسبة عبر أعوام مديدة في لحظة، بل وتجعلنا، فورياً، نقبل طوعاً فكرة اعادة النظر في الكثير غيرها من البديهيات والمسلمات التي حملناها معنا، ونحن نخوض في مسارب الدنيا، ومنعطفات الزمن؟
الذين، منّا، يعتقدون أن صعود درجات سلم الزمن، يقودهم إلى الاقتراب من ملكوت الحكمة، ويتعاملون معها كحقيقة من حقائق منزّلة غير خاضعة لنقاش، أو في حاجة إلى تقليب ومراجعة، واهمون. إذا لو كان الأمر كذلك، لكان الرئيس الأمريكي ترمب سيد الحكماء! التقدمُ في درجات سلم الزمن حتّمي، ولكن ليس حتّمياً ارتباطه بالحكمة وتذوق ثمارها. ويقيناً، يقود إلى أحوال وأمور أخرى، قد تنأى بهم بعيداً عن الحكمة المنشودة مثل الخَرَفْ، على سبيل المثال لا الحصر. ومن يعتقد غير ذلك فهذا حقّه. لكن بالتجربة وبالخبرة وبالعقل، فهو لا يختلف عمن يطارد سراباً في صحراء قاحلة، يزيد في شدّة عطشه، والتعجيل بنهايته. والأهم من ذلك، أن الفطنة ليست حكراً على الشيوخ والكهول. وهذا يعني أن الحكمة كذلك، متاحة للفطنين منّا، سواء أكانوا صغاراً في السنّ أم كهولاً. بل ومتاحة أمام كل من يسعى إلى الوصول إليها، والتمتع بتذوق طيب ثمارها، شرط أن يكون فَطِناً، لكي يعرف مدى أهمية اكتسابها، ويسعى لبذرها في عقله وقلبه كنبتة، ويواظب على الاهتمام بها ورعايتها، لكي تنمو وتثمر، ويتمكن من تذوق حلاوة ثمارها، بدلاً من أنتظار وصولها إليه، ببلوغه مدارج الكهولة.