منصة الصباح

كعك حناي.. كعك أمي

أحلام الكميشي

في طريق عودتي إلى البيت بعد انتهاء الدوام أعرج عادة على المخبز وعدد من المحلات لأشتري بعض اللوازم، وهي تقريبًا نفس مشاوير أغلب الليبيات يتحكم في طول المشوار وعدد المحلات ونوع المشتريات الميزانية التي يسمح بها المرتب الذي رغم كل التحسينات عليه إلا أنه يظل هزيلا وبالكاد يبقيك فوق خط الحاجة بقليل.

مشوار المخبز هو الأكثر تكرارا، وفي كل مرة تتنازعني عديد الفيديوهات والمقالات حول علاقة الدقيق الأبيض بالأمراض والسمنة وزيادة الوزن وارتفاع معدل السكري، وأركن سيارتي وأتوجه صوب المخبز قائلة فلتكن هذه آخر مرة وغدًا سأقلع عن شراء الخبز وسأشتري الدقيق وأخبز بنفسي مستذكرة يوم كان الخبز في البيت الخيار الوحيد لتجاوز طوابير المخابز في الحروب والثورات.

لكن، بعد شراء ما يلزمني من خبز وفطائر وعودتي للسيارة تقفز فكرة لرأٍسي فجأة أن الدقيق نفسه غير صحي، وبنفس سرعة قفزها أبادرها برد حاسم، منذ الغد سأذهب لسوق الحبوب في الكريمية أو سوق الجمعة أو حتى سوق سليمان خاطر وأشتري القمح والشعير وأعود به للبيت وأباشر تنظيفه وطحنه وحفظه وعجنه وخبزه مستحضرة صورة أمي وجدتي وكل أسلافي من أمهات وجدات رغم أني لم ألتقيهن لكن بكل تأكيد كن يخبزن خبزًا لا مثيل له.. وفي كل غد تتأجل الحكاية إلى غده التالي.

أمس عندما ركنت سيارتي واجتزت الرصيف قابلني رجل طاعن في السن يمشي الهوينى هو الآخر صوب المخبز، دخلت لأبتاع ما راق لي من خبز، فيما أحدهم يمسك بهذه ويتركها ويمسك بتلك ويتفحصها ثم يتركها قبل أن ترضيه الثالثة أو الرابعة دون أدنى ذوق أو اهتمام بالاشتراطات الصحية له وللآخرين فيما عامل المخبز منشغل بحساب الزبائن قبل خروجهم.
وإذا بالرجل الذي قابلته أمام المخبز قد دخل مبادرًا العامل بالسؤال:

– عندك كعك حناي؟

فأجاب العامل:
– لا والله ما عندنا.

ليردف الرجل:
– باهي كعك أمي؟

ظننت أنه يعرف البائع ويمازحه، لكن البائع رد بلهجة سودانية:

– شنو كعك أمي.. انا والله ما عرفتو؟

وبدا أنه لم يفهم ما يقصده الرجل، الذي كان جادًا، وأشار العامل بيده صوب أرفف في الزاوية عليها بعض المخبوزات في حوافظ بلاستيكية.

خطى الرجل ببطء صوب الأرفف والتقط حافظة يظهر أن بداخلها الكعك الزمني العادي (كعك حلو)، وأحضرها ليسدد ثمنها.

غادر كل منا المخبز، وطاف بي الخيال، هل أمه مازالت حية؟ وجدته؟ فإن لم تكونا كذلك ترى كم من الوقت مر على آخر لقاء بينه وبين أي منهما؟ انه يذكر كعكهما ولا يعرف له اسمًا آخر!

ربما هذه المرة الأولى التي أسمع فيها أحدهم يسمي الكعك الليبي العادي الزمني الحلو الذي كان ذات يوم الأكثر حضورًا في ضيافاتنا ورفيق عالة الشاهي، بـ(كعك حناي – كعك أمي).. أتراه يربط هذا النوع من الحلويات بذلك الجيل الذي لا يشتري حلوياته وإنما يصنعها في البيت من خامات متوفرة ليس فيها تكاليف اليوم الاستعراضية؟

طوال رحلة العودة إلى البيت رأيت أمي وهي تجهز مستلزمات الكعك بين سكر ومالح وتأمرني بترك ما في يدي لمساعدتها وقد ترسل أحد إخوتي لإحدى الجارات.
– قالت لك أمي راهي وتت حاجات الكعك كان بتجي تساعديها.

ويعود راكضًا للبيت وفي إثره جارتنا ملتحفة بفراشيتها البيضاء وما أن تدخل أهرع أنا لـ(تطبيق الفراشية) كما تعلمت من أمي، وتغسل هي يديها وتجلس مباشرة مقابل أمي وتبدأ كل منهما برم الكعك على المائدة فيما أساورهن الذهبية تضيف لحنًا جميلًا يترافق مع كعك أمي في خبايا الذاكرة، ويحضر إخوتي وأولاد الجارة لنقل السفر إلى الكوشة فيما تقول هي أو أمي:

– فيسع وما تبطوش.. واكتبوا اسم بوكم في ورقة على السفرة.
– قولوا للراجل راك تحرقهم.
– باهي يمي.

تزامنت جملتي الأخيرة مع دخولي للبيت، ووجدتني أنظر مباشرة إلى ذلك الركن في وسط الحوش حيث كانت أمي تجلس مع جارتنا، فيما رنين الأساور يطغى مكتسحًا ظلمة الركن الخاوي، حتى أني شممت رائحة الكعك الشهي (كعك أمي).

شاهد أيضاً

مَرْحَبًا… حُرَّاسَ بَيْتِ مَالِ اللِّيبِيِّينَ

باختصار د. علي عاشور منذ سنوات والاقتصاد الليبي يعيش حالة من التخبط والعشوائية، نتيجة لعدم …