منصة الصباح

في المكان الخطأ

زايد… ناقص

بقلم /جمعة بوكليب

ماذا تفعلُ لو صادفَ وذهبتَ في زيارة دورية إلى طبيبكَ، بغرض التأكد والاطمئنان على صحّتك. وأنّك، خلال تلك الزيارة الدورية، قال لك الطبيب بنبراتِ صوتٍ لا يخلو من حذر، إن شيئاً ما، غير عادي، لفت نظره، ويعتقد أنّك في حاجة إلى زيارة أخصائي في أمراض القلب؟
من المتوقع أن الخبرَ لن ينزل عليك بَرداً وسَلاماً. و بالضرورة، تطلبُ توضيحاً. ويجيبكَ الطبيب قائلاً إنّه يعتقد أن قلبك يقع في المكان الخطأ من صدرك!!
المكانُ، أو الجهةُ الخطأ، تعني، حرفياً، أن قطعة العضل تلك في صدرك، على عكس بقيّة خلق الله، تميلُ يميناً. المفارقةُ أنّكَ بدل أن تزعل ينتابكُ ضحكٌ مفاجيء، حتى يستغرب الطبيب. فتقول له بأدب إنّكَ كنتَ طوالَ عمركَ يسارياً، ولم يخطر ببالك مطلقاً أنّكَ، طوال تلك الفترة، كنتُ تحمل في صدرك قلباً يميل جهة اليمين!
يحجزُ لك الطبيب موعداً مع اخصائي. تشكره، وتغادر حجرة الكشف. وتحاول أن تضع عربة قطارك على نفس قضبان السكة الحديدية السابقة، وتواصل حياتك كالمعتاد، إلى أن يحين الموعد المقرر للكشف مع الاخصائي. ولأنّك ببساطة ليس بمقدورك تغيير حياتك فجأة. وليس بمقدورك فعل شيء. وليس أمامك سوى مواصلة ما تعوّدت فعله، لا تجد أمامك سوى سلك تلك الطريق. ثم أنك، كما يقول الشاعر الباكستاني فايز أحمد فايز” وصلتَ إلى ذلك العمر، حيث يزور المرءُ القلبَ من باب المجاملة فقط.”
هذا التفكير العقلاني والمنطقي جداً، يدلُّ على نضوج فكري مكتسبٌ من تجارب الحياة، لكنّه للأسف، بعد تلك الزيارة الطبية الدورية، يتلاشى في الهواء، ولن يجد مكاناً لديك. ومحله يحلُّ وسواسٌ خنّاس. والسبب، لأن خلايا عقلك قد تعرضتْ لصدمة، وخطفتها الهواجسُ، وتسرّب إليها الخوفُ، وبدأت نواقيس القلق تدقُّ في أرجائك. مبعث القلق والخوف ليس من وجود قلبك في الجهة الخطأ من صدرك، رغم غرابته، بل معرفتك لتلك الحقيقة بعد قرابة سبعين عاماً. والأسوأ ما قد ينجم عنها من أشياء لا تعرفها ولا تحبّ التفكير فيها، ومن ضمنها طبعاً، أنّك من المحتمل جداً أن تغادر الدنيا بعد وقت قصير، على عكس توقعاتك، وتمنياتك بحياة طويلة، هذا من ناحية. من ناحية أخرى، أن تفكيرك يشتطُّ، لأنّك في حالة نفسية استثنائية، ويجعلك تفكر في مواضيع كثيرة. وبشكل غير سوي. وعلى سبيل المثال، تجدُ نفسك تحاول الربط بين اكتشاف ميل قلبك نحو اليمين وحرصكَ، مؤخراً، على اقتناء وقراءة صحف يمينة سياسياً! وكأن قلبك، وليس عقلك، مركز وعيك السياسي. وهذا باختصار يعني أن وعيكَ ونضجكَ وفهمك واستيعابك وخبراتك وتجاربك الحياتية تقلّصتْ وانضمرتْ، منذ أن غادرت العيادة. وأنّكَ، ياروح أمك، دخلت نفقاً، يقيم به وسواسٌ خنّاس. وأنّكَ لن تدرك راحة، بعد أن تسرّب القلقُ في داخلك وأحتلَّ كل أراضيك. ومن المتوقع جداً، أن تبدأ تسير في الشوارع وتكلم نفسك بصوت مسموع ليس لك فقط، بل لمن صدف وكانوا من حولك، حتى تذهب بهم الظنون بصحتك العقلية. والحل؟ الحلول الجاهزة نفدت من الأسواق منذ زمن بعيد. وإلى أن يحين موعدك مع الأخصائي وأجراء الفحوص والتحاليل الطبية، حاول، قدر الإمكان، حين تكون خارج البيت، التقليل من السرحان، و الانتباه إلى حركة مرور السيارات من حولك، حتى تتمكن من البقاء على قيد الحياة، وتتمكن، أخيراً، من معرفة الجواب عن السؤال: لماذا، من دون كل خلق الله، ولدتَ بقلب في المكان الخطأ؟

شاهد أيضاً

كتاب “فتيان الزنك” حول الحرب والفقد والألم النفسي

خلود الفلاح لا تبث الحرب إلا الخوف والدمار والموت والمزيد من الضحايا.. تجربة الألم التي …