زايد..ناقص
بقلم /جمعة بوكليب
زمان، في كتاب القراءة، المقرر على تلاميذ الصف الخامس من المرحلة الابتدائية، من تأليف المرحوم خليل السكاكيني، كان، من ضمن المواضيع المقررة، موضوع بعنوان فوائد التدخين!
وحين تقرأ الموضوع تكتشف أن للتدخين ثلاثَ فوائد، أتذكر منها أثنتين، وهما أن المدخّن يموت مبكراً، وبالتالي يستريح من عناء أمراض الشيخوخة. والثانية أنه بمرور الوقت يصبح كثير الكحة خاصة اثناء الليل، وهذة الكحة تعمل بمثابة محذر ومنبه للصوص بوجود رجل في البيت، وبالتالي يتجنبون محاولة دخول البيت خلسة وسرقته!
ولم تكن وزارة التعليم، وإدارة المناهج المدرسية، آنذاك، في حاجة إلى تنبيه التلاميذ لفوائد التدخين لأن مدير المدرسة والمدرسين وعاملي النظافة كانوا مدخنين شرهين، ينفثون دخان سجائرهم في داخل الفصول وخارجها، ويلقون بأعقابها في كل مكان.
زمان، أيضاً، كانت شركات التدخين تتنافس فيما بينها على بيع منتوجاتها المتعددة، وهذا التنافس يبدو أكثر شدة وحرارة في مجال الدعاية، حيث كانت كل شركة تحرص على استئجار نجوم السينما العالميين وتوقيع عقود لآجال طويلة بغرض الظهور في الاشرطة والملصقات الدعائية، ولم تكن شركات تصنيع منتوجات التبغ في حاجة لانفاق أموال على دعايات واستئجار نجوم عالميين لتسويق منتوجاتها لأن أغلب الأباء والاجداد، رحمهم الله، كانوا على علاقة جدُّ وطيدة مع السجائر، والحمد لله أن الحشيش لم يكن معروفاً، آنذاك، وإلاّ لتحولت منازلنا ومدارسنا ومقاهينا إلى غرز!
وكنّا نحن الصغار نتحيّن الفرص لسرقة السجائر وتدخينها، بعيداً عن أعين البالغين، الذين كانوا يبدون حرصاً على حرماننا من شيء نراهم يفعلونه بأريحية وحب. وكان البعض منّا يترقبون، ببالغ الصبر، توالي الأعوام سريعاً، ليصلوا مرحلة البلوغ، وينتزعون حقوقهم في التدخين علناً، وشراء علب السجائر. في حين أن بعضنا الآخر لم يكن في حاجة لذلك، وشرع مبكراً في التدخين، عملاً بالمثل الذي يقول “الخير بكري والشر بكري.”
مع توالي السنين، تغيّر اتجاه الريح. وبدأنا نسبح فوق موجة جديدة. وبدأنا نقرأ ونسمع ونشاهد برامج وتعليقات وتحليلات حول مضار التدخين. وبدأت سياسات الحكومات في التغيّر وفرض رسوم ضرائبية عالية على منتجات التبغ، بل وفرضت على شركاته المنتجة قيوداً عديدة ومريرة، حتى صار التدخين رديفاً للاصابة بأمراض عديدة خطيرة، وطريقاً سهلاً لموت سريع، والحرمان من الحياة.
حين دخلت السجن في عام 1978 لم أكن مدخناً. لكني خلال فترة التوقيف الانفرادي في سجن الجديدة، بطرابلس، كانت إدارة السجن توزع على كل سجين 10 سجائر سبورت. ونظراً لطول الوقت والكساد والتوتر والوحدة، بدأتُ علاقة مع الشيء الوحيد المتوفر لي في الزنزانة: السجائر. ولم تنته فترة الشهور الثلاثة، وهي فترة السجن الانفرادي، حتى تحولتُ إلى مدمن سجائر، ولا تفارق شفتيّ السيجارة. لكن للسجن قواعد ونظما وترتيبات، ووسائل اغراء وعقاب، في أيدي من يديرونه، ومن ضمنها منح السجائر ومنعها. وبالفعل، كان الحرمان من التدخين واحداً من ضمن عقوبات عدة كنتُ، شخصياً، أمقتها، لان المنع كان يعني زيادة التوتر النفسي، والشعور بالحرمان أكثر، وتفاقم الاحساس بالقهر في النفس. وما ينطبق عليَّ يطال العديدين غيري، وبالتالي، يتحول السجن إلى اسلاك مشدودة بالتوتر النفسي، ويصير من السهل أحيانا انفلات ما تبقى من خلايا هادئة وتحت السيطرة في الأدمغة.
المجتمع، والحكومة، والمدرسة، وشركات التبغ، وإدارات السجون المدنية والعسكرية يقررون، يوماً، أن التدخين مفيد لك، ويفعلون المستحيل لتحويلك إلى مدخّن، ثم حين تدمن على التدخين، يقررون أن التدخين ضار بصحتك، ويطالبونك بالتوقف حرصاً على حياة لم تكن، في يوم، ملكك!!