خلود الفلاح
يبدأ الكاتب الألماني بيرند برونر كتابه ” فن الاستلقاء: لماذا ننام.. لماذا نستيقظ.. ولماذا نعيش؟” بعدة تساؤلات، منها، هل نشعر بالسعادة ونحن في وضع الاستلقاء؟ ولماذا يعد الاستلقاء في بعض المجتمعات تعبيرا على الكسل أو علامة على العجز في مواجهة عالم يمر بتغييرات هائلة؟ وهل الاستلقاء هو فن السكون؟
هذا الكتاب الصادر الذي ترجمه إلى اللغة العربية المترجم سمير منير، (الطبعة الأولى ـ 2024 ـ العربي للنشر والتوزيع)، يتحدث عن الاستلقاء تاريخياً وطبياً ونفسياً ويعرّج على صناعة الأرائك والسرائر ثم يوضح أنواع الاستلقاء وفوائده ومن من الكتّاب كان يفضل الكتابة والقراءة مستلقياً.
الكسل ليس بالضرورة شيئا سلبيا أو مؤشر يدل على الخذلان بل يمكن أن يكون فعلا إيجابيا، حيث يمكن أن يكون استراحة محارب أو هدنة سريعة. لذلك يتيح لنا الاستلقاء احتمالات كثيرة، فهو يحتوي نطاقا كاملا من أوضاعنا الإنسانية، من السلبية التامة إلى النشاط والحماسة، إن حياة الإنسان تبدأ وتنتهي في استلقاء.
وأن الاستلقاء يشعرنا بالسعادة، لأننا ببساطة أثناء الاستلقاء نؤدي بعض الأنشطة، حيث ننام، ونحلم، ونحب، ونفكر، وأيضا نستسلم للحزن والاكتئاب، ونغفو ونعاني.
الاستلقاء في الكتاب هو فعل محبة، وجزء أساسيا من أنماط وجودنا. يمكن تحقيقه في أماكن وغرف وأسطح مختلفة، لكن الاستلقاء شهد ظفرة بدرجات متفاوتة، فبعض العصور والثقافات كانت مولعة بالاستلقاء الواعي “المهذب” على سبيل المثال، الأوروبيون في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ينظرون نحو الشرق ليستلهموا من العادات المحلية والمتخيلة هناك ما يخص استلقاءهم.
فلسفة الاستلقاء
هناك الكثير من الكتب التي تناولت الأبعاد المتعددة للنوم وأهميته وتأثيره على حياة البشر، منها كتاب “لماذا ننام: أكتشف طاقة النوم والأحلام”، ويتناول من خلاله لأستاذ علم الأعصاب وعلم النفس ماثيو ووكر، الأسرار المحيطة بعالم النوم والأحلام. مشيرا إلى أن العمليات الفسيولوجية والأحداث العصبية المرتبطة بكل مرحل النوم، تساهم في تعزيز صحتنا الجسدية والعقلية. وكيف يلعب النوم دورا في حماية الذاكرة، والتعافي الجسدي، وتنظيم العواطف. إضافة إلى تأثير نقص النوم على الجهاز المناعي، والذاكرة، والقدرات العقلية، وتأثيراته على الصحة العامة مثل زيادة مخاطر الإصابة بالسمنة وأمراض القلب. وتأثير الكافيين والكحول على النوم.
ويتناول الكاتب هيثم الورداني في “كتاب النوم”، النوم من خلال ثلاثة محاور هي: الهوية، والسياسة، واللغة، ساعيا للاقتراب من ذلك الأمل الذي يتشكل في قلب الظلام ويجعلنا قادرين على بدء يوم جديد، وطامحا إلى رسم صورة تفي بتعقيدات النوم بعيدًا عن اختزاله في الأحلام، أو الاكتفاء بوصمه بالسلبية أو الزيادة عن الحاجة. بحذر من النوم من دون إيقاظه.
ويربط بيرند برونر، بين الاستلقاء والحالة المزاجية للشخص الذي يستلقي. على سبيل المثال الأشخاص الذين يقضون أغلب الوقت أمام شاشة الكمبيوتر، سوف يسعون إلى إحداث توازن بين ذلك وبين ممارسة الرياضة والحركة وبالتالي الاستمتاع بالاسترخاء الذي يوفره الاستلقاء.
ويضيف: عندما نستلقي على ظهورنا، وتكون عيوننا مفتوحة، ونوجه أنظارنا إلى الأعلى نحو السقف، فإننا نفقد اتصالنا مع من حولنا، وأن حالتنا العقلية بأكملها تتغير مع تغير وضعية أجسادنا. ففي الاستلقاء لا يمكن أن يكون رد فعلنا بالطريقة ذاتها التي فعلناها عندما كنا في وضعية أفقية.
أن التفكير في وضعية الاستلقاء لا يتعلق بأبعاد فسيولوجية ونفسية وإبداعية فحسب، بل بقضايا ثقافية متعلقة باقتصاديات الوقت ووتيرة حياتنا.
أن أجسادنا مؤهلة لأداء ما هو أبعد من الحركات المحدودة التي نطلبها منها يومياً، فنحن نجلس وقتا طويلا جدا، ونتحرك أقل بكثير من أسلافنا الذين كانوا يعيشون قبل بضعة أجيال فقط. لقد ولدنا لنؤدي أشكالا متغيرة من الحركة، من المشي إلى الاستلقاء، والوقوف، والجلوس، وذلك بسبب تركيبتنا الجينية واستعداداتنا الجسدية.
حمام البخار الشرقي
الاستلقاء والمشي وجهان لعملة واحدة، فمن مارس نشاطا عنيفا هو الشخص الذي يعرف الإحساس اللامتناهي بالاسترخاء الذي يمكن أن يوفره الاستلقاء، وفي المقابل هناك من يرى الاستلقاء هروبا من التعب فقط. يمكن الاستلقاء في عدة أماكن، ولا يرتبط هذا بوجود أريكة أو سرير، ولكن الأمر يتطلب وجود سطح مستقر، وكلما كانت الأرض تحمل ثقل أجسادنا بشكل أفضل، زادت قدرتنا على تجديد طاقتنا.
ويشير بيرند برونر، إلى أن الارائك والاسِرة هي الإطار اللازم لمرحل الراحة والنوم، ولكن إذا احتسبنا الوقت الذي نقضيه في وضع الاستلقاء يمثل ثلث حياتنا على أقل تقدير إذا ما أخذنا الفروقات الفردية من شخص لآخر، ويعد الاستلقاء جزءاً أساسيا من طقوس حمام البخار الشرقي، إذا ينعم زائر الحمام بفترة راحة طويلة مستلقياً، لكن كيف يمكننا التمييز بين الاستلقاء والأوضاع الأفقية الأخرى؟ على سبيل المثال عندما يقع الإنسان تحت تأثير التنويم المغناطيسي يكون في هذه الحالة متصلبا في وضعية أفقية كأنه لوح خشبي، ويبدو أنه يرقد مسترخيا. لا شك يذكرنا هذا الوضع باستلقاء رواد الفضاء أفقيا بسبب انعدام الجاذبية في الفضاء، وهنا تكمن المفارقة أن يكون رائد الفضاء في وضع أفقي، لكنه ليس مستلقيا.
وتحدث بيرند برونر، عن أن الاستلقاء في الطبيعة يتسم بطابع مختلف عن الاستلقاء داخل المباني المغلقة، ولا يرجع ذلك فقط إلى عدم وجود قيود تحد من الرؤية إلى الأعلى. إذ يتعرض من يستلق في الطبيعة للعديد من المؤثرات الحسية مثل الضوء الساطع، وزقزقة العصافير، وأصوات نشاط البشر والآلات.
في النهاية، نبحث عند الاستلقاء عن الوضع الذي يحقق لنا أكثر قدر من الراحة وإن كانت الأوضاع التي نتخذها عند النوم لا تخضع لسيطرتنا الواعية، ولكنها ليس تاعتباطية. فربما كان الناس البدائيون معتادين النوم في وضعية القرفصاء اعتقاداً منهم أن هذا الوضع يجعلهم يدركون المخاطر بسهولة.
ويفترض فريق آخر أن هؤلاء الأشخاص الأوائل عدوا الموت والنوم مرتبطين ببعضهما، أي أن الموت شكل خاص من أشكال النوم، والعكس.
من النوم… إلى الاستيقاظ
يطرح هذا الفصل من الكتاب سؤالا كبيرا، عن ماهية النوم، وإذا كان العلماء قد قدموا تفسيرات مختلفة لهذا السؤال، فمثلاً يذهب أرسطو إلى القول إن ” الطعام يؤدي إلى حدوث تعرق دموي في الأوردة، الذي يتراكم في الرأس ويسبب النعاس”، بينما يرى الباحث بيرند برونر، أنه بمجرد الاستلقاء يصير النوم قريبا، بشرط أن تكون مستعدا له.
ووصف بيرند برونر، طقوس الاستيقاظ التي اتبعها لويس الرابع عشر ب “طقوسا أسطورية”، إذ كان يرسل في طلب ما لا يقل عن ستة أفراد ممن يحملون رتب النبلاء لمساعدته بطرق مختلفة في جعل الاستيقاظ والنهوض أسهل بالنسبة له.
وأضاف: في عالم اليوم المتسارع أصبحنا متفقين، أن فصول السنة والمناخ وحالة الطقس تؤدي أيضا دوراً في عمق النوم ومدته، يضاف إلى ذلك عمر الشخص النائم، وحالته الصحية، وتعد قيلولة بعد الظهر مثالاً على كيفية تأثير الظروف المناخية في نمط النوم. كما أن تناول الطعام أثناء الاستلقاء في وضع أفقي يثير حفيظة أتباع من يتمسكون بثقافة الجلوس إلى المائدة.
تاريخ نشأة المراتب
المعروف أن الوسادة والبطانية والمراتب، أهم مستلزمات الاستلقاء والنوم المريح. مع ضرورة معرفتنا أن كل المراتب ليست متساوية، إذ إن هناك الكثير من الأنواع والمصانع التي تنتجها، إضافة إلى ذلك، هناك إمكانات عديدة للهياكل التي تحمل المراتب. ولا يشعر المسؤولون عن الترويج لمبيعات المراتب بالحرج من مدح منتجاتهم.
وعلى مر التاريخ شهد تصميم السرير تنوعا كبيرا، ربما يمكن القول إن السرير أصبح الآن يبوح أيضا بشيء عن شخصية مستخدميه، هذا ما دفع الكاتب اوتو فريدريتش بولنو أن يجتهد ويشرح سبب انشغال عدد قليل جدا من الشعراء بالسرير، تلك القطعة الساكنة من الأثاث. وما مدى حداثة الآلاف من آرائك الاستلقاء والاسرة التي تظهر عاما تلو عام في معارض الأثاث الدولية؟ هل تمثل ابتكارات أم أنها أشكال متغايرة من الشيء نفسه فحسب؟ وهل يتفق فن الاستلقاء في الواقع مع الابتكارات في التصميم؟
مثلا ابتكرت أحد الشركات العالمية سرير “السجن” أي السرير ذو التصميم الذي يشبه قضبان السجن، وهو السرير الواقعي المصنوع من الصلب، وبه أصفاد، وانتجته الشركة المصنعة للمسدسات، وقد وصفته الشركة المصنعة ب السرير الأكثر إثارة في العالم.
وختاما، أن فن الاستلقاء غير مستقل في حد ذاته، فهو يتواصل مع فنون أخرى، منها فن عدم فعل أي شيء، وفن الاكتفاء بالقليل، وفن الاستمتاع، وفن الاسترخاء، وفن الحب.