منصة الصباح

على جناح درّاجة من طنجة إلى باريس

على جناح درّاجة

من طنجة إلى باريس

محمد الهادي الجزيري

بعد النثر والشعر والاستهلال وصباح الخير يا باريس ..، تبوح عائشة بلحاج في أوّل عناق مع القارئ ” قادمة من بلاد دافئة ومشمسة، لكنّها مع ذلك باردة ومغلقة على امرأة مثلي “، إذن في غمرة التواصل مع القارئ تشي الكاتبة بكونها ليست امرأة عاديّة من مجموع النساء العربيات ..بل تمثّل استثناء في التقبّل والفهم والوعي بالذات.. ، ولكننا لم نحكم لها أو عليها ..، وأمامنا النصّ الفيصل ..وسنرى …

نحن في أثر سيدة مسحورة ومنقادة حسب رياح أهوائها، نحو المجهول والسحريّ في شوارع باريس وساحاتها، مدفوعة إلى معالمها وقصورها ومتاحفها ..برغبة جامحة لا رادّ لها سوى المعرفة والاكتشاف وحبّ الاطلاع ..وهذا ما نستشّفه في بداية انطلاقها في الوصف بتفاصيل مدهشة ..، ونتبعها في كواليس التاريخ وهي تذكّرنا بكلّ شيء ..، تنتقل من العين أو السمع أو اللمس ..لتنقلنا إلى حاستيْ الكتابة والقراءة ..فكأنّنا نكتشف حواسا أخرى مع هذه الكاتبة المولعة بالمعاني المرسومة أو المنحوتة أو المخطوطة ..، بحقّ أحيّيها على هذا الجهد الرائع ..، جهد نقل ما عاشته إلى حكايات مقروءة :

” أشاهد الأماكن الجميلة، وحين أنتهي من النظّر أتنفسها بعمق، حتّى تراها حواسي، حتّى تسكن ذاكرتي الهوائية، أسترجعها في عبق شبيه أو هواء آخر في مكان مختلف، بالشعور نفسه بالتلاشي، في مكان بالغ الجمال، كأنّنا نولد من أجل الجمال وحده…”

نقتفي أثر عائشة بلحاج في ساحات باريس وفي كواليسها، وذاكرتنا مستعدة للإنصات والاستفادة ..فهذه المرأة الجامحة تتكلّم أكثر من السير أو ركوب سيارة أجرة أو قطار، تكلّم نفسها وأصدقاءها والعابرين ..، وتبعث فينا كائنات خلنا أنّها مدفونة فينا : نجد أنفسنا في مواجهة إحدى حبيبات أوغست رودان يلي ذلك نقابل بيكاسو في موعد للكاتبة ، هي أرادت ذلك، ثمّ نصادف في إحدى المقاهي الكاتبة الشهيرة سيمون دو بوفوار أو نغنّي في صمت للمغنية الحزينة إديث بياف ..، أو نقف معها كي تصارع فكرة الذكورة وتبرهن جدارتها بأنوثتها الباذخة، إثر ذلك تنتقل بنا إلى ” اللّوفر ” ونكاد نسمع صوتها وهي تموء بجانب قطّ اللّوفر المدلّل ..، وتتواصل السفرة مع هذه المرأة في باريس ..، وإن كانت سريعة الخطو أو كنا بطيء الحركة ..فالإلمام بهذا المتن السردي الداخل في باب أدب الرحلات ..، أمر صعب على مقالة إخبارية يُراد منها توجيه القارئ إلى قراءة هذا الكتاب بعينه..، صراحة وجدت المتعة والإفادة من التوغّل في نفسية هذه الكاتبة ..وبالمناسبة أجدّد تهنئتي لها بالتتويج ..، فهذا يدلّ على مراهنتي على المرأة ..ستربح الرهان ..فالمرأة صلب المجتمع وقلبه وعقله وهي كلّ شيء …

مقتطفات من فقرات معيّنة ..ليأخذ القارئ فكرة عن الكتاب ..فهو متن سرديّ يتحدّث عن أدب الرحلة ..وفيه وصف المكان ..وومضات تاريخيّة ..وفيه أحاسيس عائشة بلحاج إزاء ذلك ..، ونبدأ بما قالته (كاميّ كلوديل) إحدى حبيبات الرسّام النّحات أوغست رودان التي انهارت عصبيا حين انفصل عنها :

” يعذّبني شيء ما غائب دوما “..انتهى كلامها

” هذا الشيء المفقود كان الحبّ، والوفاء له، وقد حرمهما منهما من أحبّت، رودان لم يكن وفيّا، وفوق ذلك تخلّى عن حبّهما، واختار نساء أخريات بينما كانت هي مكتفية به ..”

وهذا مقطع آخر من نصّ بعنوان ” يا رجل ، من أنتَ ؟” …

” سألني عصفورا الحبّ شابان: ما الذي يجذبك في باريس؟

قلت: الفنّ والمتاحف

قالا: هناك معرض لبيكاسو لهذا الشهر، لحسن حظّك.

ابتسمتُ، ولم أقل لهما إنّه ينتظرني، وإنّه لا علاقة للحظّ بالأمر ..”

أمّا المقطع الأخير من نصّ بعنوان ” محتالو القلب المقدّس ” تتحدّث فيه عائشة بلحاج عن حادثة اختطاف بن بركة التي وقعت في عام 1965 من قِبل الشرطة الفرنسية تعاونا مع السلطات المغربية، أمّا ما سأقتطعه لكم فعبارة عن تاريخ فرنسا الاستعماري وسرقتها لآثار الشعوب المستعمَرة :

” لا تشير باريس إلى تاريخ الفرنسيين فقط، بل تحفظ بوفاء جزءا من تاريخنا أيضا، وكلّ العابرين منها من المعنيين بنا، ممّن تحتفظ باريس بأثرهم ليراه الآخرون الذين يأتون بعدهم، ومنه ما سرقه الاستعمار الفرنسي من الآثار في الدول التي احتلها سابقا، ليعرضوه في متاحفهم، فحيث ما ذهبت، هناك لمحة من تاريخ ما، محلّي أو عالمي أو هجين لا أصل له، لكنّه وجد في باريس الوطن الأخير ..”

من كلمة الاستهلال التي كتبها الأستاذ محمد أحمد السويدي معرّفا بالجائزة وما تصبو إليه في زحمة الجوائز العربية والعالمية..، نقتطف لكم فقرة صغيرة في ختام هذه الإطلالة على كتاب ” على جناح درّاجة ” لعائشة بلحاج :

من أهداف جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة ..إلى تشجيع أعمال التحقيق والتأليف والبحث في أدب السفر والرحلات واليوميات، وهو ميدان وخطير ومهمل، وقد تأسست الجائزة إيمانا من ” المركز العربي للأدب الجغرافي ـ ارتياد الآفاق ” و ” دارة السويدي الثقافية ” بضرورة الإسهام في إرساء تقاليد حرّة في منح الجوائز، وتكريسا لعرف رمزي في تقدير العطاء الفكري، بما يُؤدي بالضرورة إلى نبش المخبوء والمجهول من المخطوطات العربية والإسلامية الموجود في كنف المكتبات العربية والعالمية، وإخراجه إلى النور …”

شاهد أيضاً

زيادة الوزن وطريق الموت

مع شاهي العصر: توجد دولة في جنوب أمريكا اسمها بوليڤيا بها شارع يعد أخطر شارع …