عمق
بقلم / علي المقرحي
ليس المهم أن نعرف من صاغ تسمية ( صفقة القرن ) وأطلقها على عملية السطو الشائنة على القدس العربية ، فليس صعباً التخمين بأنها سُكّٓت بالتأكيد في ماخور من مواخير الغرب ، التي يحج إليها ساداتنا وكبرائنا حج المؤمن إلى قدس أقداسه ، لكن المؤسف أن ننساق نحن الذين ( علمنا أو لم نعلم ) لسنا في حسبان من عقدوا تلك الصفقة إلّا إمتداداً للقدس ، وأن كلاً من البائع والشاري متفقين على بيعنا معها .
المؤسف أن ننساق مع كل ما يقال وما تروجه أبواق الدعاية الغبية ، وأن نقبل كل التسميات والأوصاف ، التي لا تهدف إلى غير إهانتنا وإذلالنا ، مؤسف أن نصدق كل ما يقوله الاعلام وأن نؤمّن على ما يروج له من دعاوى وادعاءات ، ومؤسف فوق ذلك أن يكون الإعلام بمختلف وسائله ووسائطه سبيلنا الوحيد لمعرفة ما يدور حولنا ، نقبل كل ما يجيئنا عبره كما لو أنه وحي منزل ، ودون أن نشك فيه أو نفكر في دلالاته ومراميه ، إن الاعلام أشبه بقناة أو مجاز يمكن لأي شئ ولأي أحد أن يتسرب عبره إلى دواخلنا ويؤثر في أحساساتنا ومشاعرنا وأفكارنا ، وما من شيء يفرق بينه وبين الثرثرة المعتادة ولغط المقاهي ونواصي الأزقة ، وكل الأحاديث الكاسدة والمبتذلة التي تردده وترصعه بما في نفوس أصحابها من مكبوتات ورغبات ومخاوف ، مما يضفي عليه أهمية لا يرقى إليها عادة .
إننا انسياقاً مع ما يقوله الإعلام نسمي الكيان الإجرامي المغتصب لفلسطين ( إسرائيل ) دون إن ننتبه إلى أننا نسيء بتلك الببغائية إلى ضرورة أن ننزه نبياً مسلماً هو يعقوب عليه السلام من أن تكون له أوهى صلة بكيان إجرامي عنصري لا يقل إنحطاطاً ولا خسة عن عصابات الكوكلاكس كلان وآل كابوني والمافيا ، وأن ببغائيتنا في الواقع ، تقدم الدليل عما نحن عليه من غياب وافتقار لحضور الخاطر وانقشاع والوعي ، لمن يرغبون في أن نغرق في الغيبوبة ولا نستيقظ أبداً ، ولكن الاعلام الذي يبدو لنا عند هذه النقطة أشبه بمخدر ليس إلّا ضحية من ضحايا نخبنا السياسية والثقافية البائسة .. لا أحد مسؤول عن تردينا الشامل الذي طال كل أبعاد وجوانب وجودنا وحياتنا ، وران على راهننا دون أن يوفر ماضينا فيصبغه بصبغته الكامدة ، بل ويطاول مستقبل أبناءنا وأحفادنا فيرهنه من خلال الصفقات المشبوهة والتنازلات المهينة لحساب عصابات القتلة والأفاقين وشذاذ الآفاق .
نخبنا السياسية والثقافية ، المتلفعة بأزيائها الكرنفالية وانحيازاتها الوطنية والأقليمية والقومية والأممية وأيديولوجياتها البائسة من أقصى اليمين إلى أشد اليسار تطرفاً ، وبدعاوى وإدعاءات الواقعية والحداثة ، هي من تسبب في هذه الصفقة الظالمة ، وجرعنا كأس هذه القسمة الضيزى .
النخب بجلناها ورفعناها عالياً آملين أن تقودنا إلى العلى والتقدم والحرية ، فلم يطب لها من موطئ غير هاماتنا ، وكأنما لم يكفنا ما يوهن كواهلنا ويثقل صدورنا من ذكريات قهر الاستعمار المباشر ومعاناة أشكاله المتخفية وراء شعارات وأقنعة لا تخفي شيئاً من حقيقته إلا على من لا يريد أن يرى ، النخب التي لم تكن أقل من أعدائنا قدرة على الكذب والتزوير والتلون ، التي لم يطب لها ونحن نبجلها ونرفعها عاليا إلا التربع فوق رؤوسنا ، وغدت قرون مهانة إنحططنا بها إلى ما دون آدميتنا ، وغدونا وعولاً بلهاء تتناطح وتتبادل السباب والشتائم واتهامات التخوين والعمالة ولا تخف في كل أحوالها عن الثغاء ، فيما تعقد تلك النخب مع اقتلة والسفاحين الصفقات المخزية على أوطاننا ورؤوسنا .
إن صفقة القرن بكل مساويئها ، وكل الخسائر والمهانات التي جاءت في ركابها ، لا تخلوا من مكاسب يمكن لها « إذا ما أحسنا قراءتها والتعاطي معها « أن تحدث التغيير الذي نحتاج إليه وتحقق لنا من النتائج والأهداف ما نريد .
وأول مكاسبنا وأهمها هو افتضاح تلك النخب البائسة وتعريها من كل لديها من أقنعة وما تدثرت به من دعاوى وإدعاءات كاذبة ، أسقطت صفقة القرن تلك القرون المهينة وألقت بها تحت أقدام ضحاياها ، ألقت صفقة القرن قروننا تحت أقدامنا وفي ردغ مستنقعات الجهل والتخلف والانحيازات المتدنية والدونية التي أردتنا فيها تلك النخب بأكاذيبها وشعاراتها ، لتحصد ما زرعت ، ولتتحرر رؤوسنا من القسر وسوء التوجيه ، وليتاح لنا أن ندير أعناقنا إلى ما قد يكون لنا فيه أمل ومخرج مما نحن فيه من بؤس الحال ، وأن نلتفت إلى ما يجدي حقاً .