منصة الصباح

صدمة الماضي

إذا كنا من الشعوب التي تعاني “صدمة المستقبل” حسب توصيف الأميركي ألفين توفلر فإن أميركا وجدت نفسها فجأة تعاني “صدمة الماضي”، فأميركا التي لا تعرف الماضي ووطأته على شعوب الحضارات القديمة، والتي قد نعتبر أقدم مخطوطاتها رواية “ذهب مع الريح”، والتي لا يصل عمر أعرق مدنها إلى الستمئة عام من التاريخ والتي ظلت تنظر إلى الأمام تاركة للإنجليز “النظر إلى الخلف في غضب” ولنا “النظر إلى الخلف في وله”، والتي مارست قبل كل منظري الحداثة “القطيعة مع الماضي وموت الأب وموت المؤلف وحتى السرديات الكبرى” وبنت كل أفكارها وبرامجها على نظرية “نهاية التاريخ” التي صاغها أحد الناجين من هيروشيما ونغازاكي، أعني الياباني “فوكوياما”، ظلت وحتى الحادي عشر من سبتمبر حضارة المستقبل التي لا يشدها إلى الماضي أي ماضٍ، التي ظلت خيولها الجامحة تركض عبر سهول المستقبل التي لا ضفاف لها.

في الحادي عشر من سبتمبر تصحو أميركا على طوفان نهر الماضي، الذي ظلت متيقنة بعبوره وتركته خلف ظهرها بمسافات لا يمكن طيّها، حين ضربها ماضٍ لا يخصها في عقر دارها وفي أهم رموز حضارتها، أعني مركز التجارة العالمية التي كانت من أهم قضاياها وأقدس أهدافها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى “صدمة الماضي”!

كان الخيال الأميركي مشغولاً بحرب النجوم ولا يمثل الماضي والتاريخ إلا جغرافيا يتناثر بها بدو مكبلون بالميتافيزيقا والأوهام، وغنية بمواد خام لا غنى عنها للقفز عاليًا إلى النجوم وأخذها لم يكن بالمهمة الصعبة بالنسبة لعقل المستقبل الأميركي.

كانت سفن الفضاء والطائرات بلا طيار وأجهزة الكشف عن كل شيء والقنابل الذكية وأسطورة “رامبو” كلها قادرة على جعل خطر الماضي شيئًا من الخيال

وجعل خام جغرافيا البدو في متناول يد المستقبل.. مقابل معامل ومراكز بحوث ومصانع وجامعات المستقبل، كان الماضي وبدو العصر الحجري الحديث يديرون مراكز بحوثهم ومعاملهم ومصانعهم وهم حفاة فقراء، يتنقلون من صحراء إلى أخرى متمسكين بكهوفهم القديمة حيث تنعكس ظلال الإنسان على جدرانها ضخمة ومرعبة وتفوق رامبو حجمًا ورعبًا، كانوا يصنعون أخطر أنواع الأسلحة، القنابل الذكية المؤمنة التي تقود نفسها بنفسها نحو الهدف لتدمره، كانوا يعيدون برمجة “البيولوجيا” في أرقى أشكالها، أعني “الإنسان”.

في الحادي عشر من سبتمبر تكتشف أميركا، على الرغم من صدمتها، أن التاريخ يمكنه السيطرة وبيسر على أعقد الأسلحة “الإنسان” وجعله قادرًا على تدمير أعقد الماكينات وأكثرها تطورًا..يهاجم الأميركان، وتحت تأثير “صدمة الماضي” وبأعقد أسلحة وأساليب المستقبل، ذاك الشبح الخارج من المقابر كما كانوا يتخيلون ويكتشفون أن العدو الذي ظنوه ميتًا موجود وفاعل ومثير للرعب.

يكتشفون أن هوليوود و(سي إن إن” وفوكس نيوز والواشنطن بوست) بكل أموالها وطواقمها تخوض حربًا صعبة ومعقدة مع “فقيه جامع” فقير وأشعث اللحية ولا يعرف شمال الأرض من جنوبها، ولكنه يعرف تفاصيل الماضي وقادر على إنتاج عشرات القنابل البشرية الذكية وشحنها إلى أرض المعركة لتوجه لهم ضربات موجعة!

كانت أميركا وحضارة المستقبل قادرة على تكوين حامل للسلاح ومقاتل شجاع وواثق من سلاحه، وكانت حضارة الماضي قادرة على تحويل الإنسان إلى سلاح مدمر يؤمن بالموت قبل الحياة.

مراكز بحوث وعلماء وخبراء أميركا صحوا من “صدمة الماضي” واكتشفوا خطورة هذا الذي ظلوا لا يلقون له بالاً، واكتشفوا ألا نهاية للتاريخ ولا للأيديولوجيا وعليهم مواجهتها بكل تعقيداتها، لينتقلوا من دراسة “صدمة المستقبل” التي تعانيها الشعوب التاريخية إلى دراسة “صدمة الماضي” التي يعانونها هم الآن.

صغار البرجوازية العربية، الحالمون بالطيران إلى المستقبل وتحقيق قفزة “الفينيكس” خارج جاذبية الماضي والتاريخ يعانون الآن “صدمة الماضي، وأيضًا صدمة المستقبل” فهم الآن معلقون في الفراغ، ومصابون بالرعب من الماضي والتاريخ، وكذلك من مستقبل لا يجدون “باصًا” يذهب إليه ويغمرهم طوفان الماضي فيتخبطون طلبًا لنجدة المستقبل، ولا خيار أمامهم الآن إلا الانخراط في جحافل الماضي أو في جحافل “الكومبرادور” والأخيرة أسهل وأكثر طراوة ورفاهية.

 بقلم / منصور بوشناف

شاهد أيضاً

بحضور المدير التنفيذي للمؤسسة الوطنية للإعلام: اختتام الدورة التي اقامتها هيئة الصحافة في مجالات الادارة الحديثة

اختتمت اليوم الخميس 21 نوفمبر بالهيئة العامة للصحافة الدورة التدريبية التي نظمتها الهيئة العامة للصحافة …