زايد….ناقص
جمعة بوكليب
العلاقةُ بمدينة القاهرة ،بالنسبة لي، علاقةٌ من نوع خاص. الخصوصيةُ تلك متميزة. في المركز منها يتموضعُ الكاتبُ الصحفي المرحوم صلاح عيسى. أنا، رغم زياراتي العديدة للقاهرة، لم ألتق بالمرحوم صلاح عيسى شخصياً، ولو لمرّة واحدة. وهذا يعني، وللأسف، أننا لم نكن يوماً أصدقاء، أو حتى معارف. بل ولم ارَ صورته إلاَّ على أغلفة الكتب أو صفحات الجرائد. وصورته تلك كثيراً ما تذكرني بكاتب صحفي آخر، هو الأستاذ مُحسن الخياط، الذي تعرفتُ عليه في السبعينيات، في طرابلس، لدى عمله ضمن أسرة تحرير مجلة الثقافة العربية.
علاقتى بصلاح عيسى محددة بحدود واضحة. وهي، أيضاً، محدودة. كونها تقع ضمن دائرة صغيرة تخصّني شخصياً، وذات صلة باهتماماتي. محورها وأساسها علاقةُ قارئ شغوف بكاتب، أو إن شئت، بكاتب مميز، مثل ساحر استثنائي، لكتاباته مفعول السحر على نفسي، وهذا أعتراف. وأجزم أنني لست الوحيد في ذلك. وكنتُ كل مرّة أزور فيها القاهرة، أعود منها مُحمّلاً ببعض كتبه. وبالطبع، ضمن كتب أخرى لغيره من الكتاب المصريين أو العرب. شيءٌ ما غير عادي يجعل صلاح عيسى كاتباً مميزاً، وفي خانة يحتلها بنفسه. أحياناً، أثناء القراءة، أتوقف متسائلاً عما يجعلني مشدوداً إليه انشداد برادة حديد إلى قطب مغناطيسي. أحياناً أخرى، أصلُ إلى ما يشبه القناعة أن ذلك الشيء هو سحر أسلوبه، وسلاسة جملته، وسعة وطرافة خياله. هناك لحظات، أقول في نفسي إن سر انجذابي إليه مرجعه ما يطرحه من مواضيع وقضايا تاريخية ومعاصرة، تسدُّ فجوات كثيرة تُركت مفتوحة في أسئلة عقلي. في أحايين أخرى، أضع ثقلي في كفة مختلفة، وأقول لنفسي ربما يرجع ذلك إلى مواقف الرجل الشخصية في حياة زاخرة، تفيض بتفاصيل دقيقة، ومنعطفات عديدة، انعكست في كتاباته، وميّزت مسيرته ككاتب ومثقف، وإنسان وطني ومناضل. تلك الحياة الزاخرة والمؤلمة، في ذات الوقت، قادته نحو مسارب تفضي مباشرة إلى الصدام مع النظام السياسي، وأدت به إلى السجون، وإلى الطرد من العمل في الصحافة لعدة سنوات. في الزيارة الأخيرة للقاهرة، أحضرت معي كتابه المعنّون ” سلامي عليك يا زمان. مشاغبات وهموم صحفي عربي في الثمانينيات.” وعلى الغلاف الأمامي صورة المرحوم صلاح مبتسماً.
الذين يعرفون مصر، هم بلا شك على دراية بالوضع السياسي الصعب الذي كانت تمر به الحركة الوطنية المصرية منذ عام 1952 وحتى الآن، في علاقتها بالعسكر. صلاح عيسى في “سلامي عليك يازمان” يرصد مرحلة الثمانينيات من القرن الماضي، ويغوص في تفاصيل وتحليل قضاياها. وكل ذلك يطرحه بأسلوب شائق، يأخذ بيد القارئ ويقوده بهدوء في دهاليز تلك السنوات الصعبة. وهو في ذلك لا يتخلى عن طرافته وخفة دمه، وما في جعبته من حكايات طريفة ومؤلمة في ذات الوقت. فأحسّ وأنا أقلب صفحات الكتاب بلهفة، أنني حقاً انتمي إلى وطن كبير. أو كما يقول هو، ” وطن بألفة لا تشعر فيه بالغربة.” والحقيقة، أن الوطن الموصوف بتلك الصفة العيسوية، وإن قرأتُ عنه وأحسستُ به، لم يصادفني بعد. ومازال حلماً يراوغني كطريدة. وكلما اقتربت منه زاغ مني متلاشياً كسراب. وطنٌ بألفة ولا تشعر فيه بالغربة، قد يتبدّى للحظة خاطفة كبرق من بين غيوم كثيفة، ثم سرعان ما تنقضي تلك اللحظة، ويغيب معها. وبمجرد تلاشيها، أعود بحزني إلى سابق عهدي وقوفاً على رصيف خال في محطة قطارات قديمة، على أمل أن أكون حاضراً لدى وصول قطاره، قبل أن تختطفني مخالبُ القدر. و… سلامي عليك يا زمان.