منصة الصباح
ستون يومًا من الفساد... النيابة تكشف وجوه الهدر في مؤسسات الدولة

ستون يومًا من الفساد… النيابة تكشف وجوه الهدر في مؤسسات الدولة

تقرير/ منى عريبي

في مشهدٍ يتكرر منذ أكثر من عقد، تتبدل الحكومات وتتغير الوجوه، لكن العنوان في ليبيا يبقى واحدًا: الفساد..

من طرابلس إلى بنغازي، ومن الوزارات إلى البلديات، فتحت النيابة العامة خلال شهرين فقط ملفات ثقيلة، كشفت حجم الهدر والتلاعب الذي أصاب مؤسسات الدولة في عمقها، وأثقل كاهل المواطن الليبي بخدمات متردية ومال عام مهدور..

وخلال الفترة من “1 سبتمبر إلى 9 نوفمبر 2025″، أعلنت النيابة العامة عن سلسلة من القضايا الكبرى، التي أزاحت الستار عن شبكة واسعة من الفساد الإداري والمالي، ما يعكس حجم الأزمة البنيوية التي تعانيها أجهزة الدولة..

 

قضية الكتاب المدرسي… التعليم ضحية صفقة غامضة

تصدَّرت قضية الكتاب المدرسي واجهة الأحداث، بعد أن كشفت التحقيقات عن عقد مشبوه أبرمته وزارة التربية والتعليم مع شركة أردنية لطباعة كتب بملايين الدنانير خارج نطاق المقررات الدراسية..
النتيجة: كتب غير صالحة، تأخر في الدراسة، وأموال طائلة أُهدرت..

وأصدرت النيابة أوامر بحبس عدد من المسؤولين على ذمة التحقيق، مؤكدة أن الفساد طال حتى قطاع التعليم، الذي يمثل مستقبل الأجيال..

 

القطاع الصحي.. فواتير وهمية وأدوية مغشوشة

في المستشفيات المنهكة بالأزمات، كان المرضى ينتظرون العلاج، بينما تتلاعب أيادٍ فاسدة بفواتير العلاج في الداخل والخارج..

التحقيقات كشفت عن اختفاء أكثر من “6” ملايين دينار من خلال صفقات علاج وهمية وأدوية مغشوشة..
أُحيل عدد من المسؤولين إلى القضاء، فيما بقي المواطن ضحية لنظام صحي فقد النزاهة قبل أن يفقد الإمكانات..

وزارة العمل… الوظائف تباع بالأختام الرسمية

بدل أن تكون بوابة الأمل للشباب، تحوّلت وزارة العمل إلى سوقٍ سوداء للوظائف..
التحقيقات أثبتت وجود أكثر من “100” وثيقة مزوّرة صادرة من داخل مكاتب الوزارة، استخدمت في توظيف وهمي مقابل مبالغ مالية..

في مشهدٍ يختصر انهيار القيم الإدارية، واستغلال حاجة الباحثين عن العمل في ظل ارتفاع معدلات البطالة..

الاستثمارات والصناديق القابضة… المال العام رهينة المصالح

لم يسلم قطاع الاستثمارات من العبث المالي، إذ كشفت النيابة عن خسائر تجاوزت “17” مليون يورو و”6″ ملايين دينار، نتيجة صفقات بالعملات الأجنبية أُبرمت دون رقابة أو شفافية..

هذه القضايا عرّت العلاقة المشبوهة بين المال والسلطة، حيث تتغلب المصالح الشخصية على المصلحة العامة في مؤسسات يُفترض أنها تحمل أمانة الأجيال القادمة..

المصارف… الحصن المالي المخترق

المؤسسات المصرفية، التي يُفترض أن تكون خط الدفاع الأول عن المال العام، سقطت بدورها في فخ الفساد..

النيابة العامة ضبطت اختلاسات تتجاوز “17” مليون دينار ليبي، عبر تحويلات مزيفة وحسابات وهمية، تورط فيها موظفون من داخل المصارف نفسها، ما زاد من تآكل الثقة في النظام المالي للدولة..

 

الفساد الدبلوماسي والبلدي… هدر يتجاوز الحدود

في البعثات الدبلوماسية بالخارج، سجلت التقارير تجاوزات مالية بلغت “861” ألف دولار تحت مسمى “مصروفات تشغيل” دون أي مستندات قانونية..

أما على المستوى المحلي، فقد كشفت النيابة عن عقود نظافة وهمية في عدد من البلديات، تجاوزت قيمتها “894” ألف دينار ليبي، ما يدل على أن الفساد تمدد من الوزارات المركزية إلى البلديات والأجهزة الخدمية..

لوحات عن الفساد للفنان/ محمد الزواوي

الخدمات العامة والنفط… من النفايات إلى الوقود المفقود

التحقيقات في قطاع الخدمات العامة، أظهرت تجاوزات مالية تفوق “3.5” مليون دينار نتيجة عقود صورية وعمولات غير قانونية..

وفي القطاع النفطي، الذي يمثل شريان الاقتصاد الوطني، تم تسجيل فقدان مئات آلاف اللترات من الوقود دون سجلات محاسبية دقيقة، في مشهد يجسد مفارقة الفقر وسط الثروة..

ملف إعصار درنة… المأساة التي لم توقظ الضمير

حتى كارثة إعصار دانيال التي ضربت درنة، لم تسلم من التلاعب..
فقد كشفت النيابة العامة عن تلاعب بقيمة “52 مليونًا و430 ألف دينار”، في ملف التعويضات، شملت أسماء وهمية ومستفيدين غير مستحقين..

جريمة أخلاقية قبل أن تكون قانونية، طعنت في الضمير الوطني وأهانت ذاكرة الضحايا..

تشير مجمل القضايا إلى أن الفساد في ليبيا تجاوز الأفراد، ليصبح منظومة متكاملة تتغذى على ضعف الرقابة، وتداخل المصالح وغياب المحاسبة..

ومع ذلك، تُبدي النيابة العامة إرادة قوية في تتبع الملفات وكشف التجاوزات، رغم التحديات الأمنية والسياسية، لتعيد للدولة هيبتها وللمواطن شيئًا من ثقته المفقودة في العدالة..

توضح الأستاذة “آمنة الهشيك”، الخبيرة القانونية، أن تحركات النيابة العامة في مكافحة الفساد تمثل “جوهر بقاء الدولة القانونية” في ليبيا، رغم الانقسامات المؤسسية..

وتشير إلى أن إعلان القضايا للرأي العام ليس مجرد كشف إعلامي، بل خطوة استراتيجية تخلق ضغطًا شعبيًا يصعب تجاهله، وتمنح القضاء دعمًا معنويًا يعزز مبدأ الردع والمساءلة..

وترى “الهشيك” أن العقبة الكبرى لا تكمن في إثبات التهم، بل في تنفيذ الأحكام القضائية في ظل غياب التنسيق بين مؤسسات إنفاذ القانون وتعدد مراكز النفوذ.

فالكثير من المتهمين – بحسب قولها – يجدون حماية سياسية أو مسلحة تعيق العدالة، ما يؤدي إلى تفاوت تطبيق القانون وضعف الثقة في مؤسساته..

وتدعو إلى تفعيل التعاون الدولي، عبر أدوات مثل تجميد الأصول وفرض قيود السفر على المتورطين في قضايا الفساد الكبرى، مشددة على أن الإفلات من العقاب لم يعد ممكنًا في عالم مترابط قانونيًا وسياسيًا..

ستون يومًا كانت كفيلة بإظهار جزء يسير من جبل الجليد الغارق في بحر الفساد الليبي..

لكن ما كشفته النيابة العامة ليس نهاية الطريق، بل بداية معركة طويلة، بين العدالة ومنظومة الظل التي احترفت التلاعب بمقدرات الوطن..

ورغم قسوة الصورة، يبقى الأمل في أن تكون هذه المواجهة اللبنة الأولى نحو دولة القانون والشفافية، حيث لا يعلو فيها صوت فوق صوت العدالة..

لوحات عن الفساد للفنان/ محمد الزواوي

شاهد أيضاً

السل يتصدر الأمراض الفتّاكة و2000 مريض يتلقون استشارات في ليبيا

السل يتصدر الأمراض الفتّاكة و2000 مريض يتلقون استشارات في ليبيا

متابعة : تقوى البوسيفي الصحة العالمية: السل أخطر الأمراض المعدية فتكًا وأطباء بلا حدود تعلن …