منصة الصباح

زايد… ناقص

جمعة بوكليب

لا أعتقد أن الفيلسوف اليوناني سُقراط سيكون سعيداً، لو علم أن مواطنيه في أثينا قرنوا اسمه بشخص آخر وصفوه بالجنون. ذلك الشخص، في حقيقة الأمر، لم يكن مجنوناً. كان واحداً من الفلاسفة البارزين في الحضارة اليونانية. لكن اليونانيين أطلقوا عليه ذلك الاسم تهكماً وسخرية بسبب غرابة سلوكه. كان اسمه ديوجينيس السينوبي- Diogenes of Sinope، وهو مؤسس المدرسة الفلسفية اليونانية المعروفة في اللغة العربية باسم “الكلبية” ويقابلها في اللغة الانجليزية “Cynicism’. و”الكلبي” صفة تطلق على كل من اتبع تعاليمه، ونهج طريقه في الحياة. ولا أعتقد أنهم كثيرون بسبب صعوبة الحياة التي كان عليهم أن يعيشوا اقتداء بمعلمهم.
سقراط المجنون، على عكس الفيلسوف سقراط، غير المجنون، لم يمت بتناول كأس من السم، بحكم صادر عن محكمة يونانية، وعاش قرابة تسعين عاماً. وهو أمر مثير للاستغراب، آخذين في الاعتبار طبيعة الحياة التي اختارها، ومارسها طوال عمره. وهي في جوهرها لا تختلف عن حياة كلب ضال. ديوجينيس الكلبي، تنطبق عليه حكمة الصوفي شمس الدين التبريزي” مَنْ تَرَكَ مَلَكَ.” إذ سعى إلى التخلص من كل الأشياء والشهوات التي تجعله في حاجة إلى آخرين. كل همه كان أن يعيش مكتفياً بذاته. لا مسكن، ولا زوجة، ولا أطفال، ولا ممتلكات يخاف عليها، ويسهر الليالي قلقاً خشية ضياعها، ولا مسؤوليات، ولا صداع من أي نوع. كان يأكل ما يجده. وإن لم يجد ما يأكل نام بجوف خاو. وكان يدرب نفسه على الشدة، فيقال إنه كان يحتضن تمثالاً رخامياً شديد البرودة في عز الشتاء. وفي حرارة فصل الصيف القائظة، كان يتمرغ على الرمل الساخن. وهي أشياء لا اعتقد أن الكلاب الضالة تفعلها مهما كانت درجة ضلالها وغرابة مسلكها. كان ينام ويصحو في الشوارع، ويقضي حاجته البشرية أمام الرائح والغادي، ويمارس الاستمناء علناً “عيني عينك يا تاجر.” وقال مرّة ساخراً إنه يتمنى لو أن اشباع حاجته إلى الطعام بسهولة اشباع غرائزه الجنسية. ولم يكن يملك من الدنيا سوى حقيبة، ( شكارة) يتوسدها، وعباءة يضعها على جسمه، وإناء لتناول طعامه وكوب لشرابه. وتخلص من الإناء حين رأى رجلا يأكل طعامه في قطعة خبز مجوّفة. و تخلص من الكوب حين رأى طفلا يشرب من ساقية ماء بيديه. الفكرة الاساسية في فلسفته تقوم على امتلاك ما يحتاجه فقط، ورفض ما يريد. وهذا يذكرني بأغنية لمطربة ايرلندية، اشتهرت في التسعينيات من القرن الماضي، اسمها شانيد أوكونور، وكانت غريبة الأطوار. الأغنية بعنوان ” لا أريد ما لا أملك-I don’t want what I don’t have”
حين سئل مرّة عن أفضل الأوقات لتناول طعام الغذاء رد قائلاً:” متى شئتَ إن كنتَ ثرياً، ومتى استطعتَ إن كنت فقيراً.”
الناس يتصارعون، و يتنافسون ويتسابقون ويتقاتلون بهدف الاستحواذ على كل شيء. وأظنني لا أبالغ إن قلت إنهم لو استطاعوا امتلاك الهواء ومنع الآخرين من تنفسه لفعلوا. لكنهم لو علموا أن ديوجينيس الكلبي قضى كل حياته، 90 عاما بطولها وعرضها، وهو يحارب غريزة حب التملك في داخله، لربما أعادوا التفكير قليلاً فيما يفعلون. وهذا لا يعني أنني، في هذه السطور، أدعوهم للاقتداء بسقراط المجنون، وبما كان يقوم به من ممارسات كانت ولا زالت غير مقبولة إنسانياً. لكني بالحديث عنه، واستحضار سيرته ربما أكون ساهمت في لفت الأنظار إلى ما صارت إليه أحوالنا من سوء، حتى صرنا وسقراط المجنون سواء في الافراط، ولكن بشكل عكسي.

شاهد أيضاً

بحضور المدير التنفيذي للمؤسسة الوطنية للإعلام: اختتام الدورة التي اقامتها هيئة الصحافة في مجالات الادارة الحديثة

اختتمت اليوم الخميس 21 نوفمبر بالهيئة العامة للصحافة الدورة التدريبية التي نظمتها الهيئة العامة للصحافة …