منصة الصباح

روايتي … جناح بعوضة في حافر زرافة

محمد الهادي الجزيري

 

 

هذه مقاطع وفقرات صغيرة من روايتي ” جنّة الذئب ” التي صدرت سنة 2010 ..، ارتأيت نشرها في جريدة ” الصباح ” كي تصل إلى قرّاء ليبيين وعرب ..إيمانا منّي بأنّ الأدب لا يبلى ولا يموت ..، خلال هذه المقاطع أتقمّص خطاب الحاكم بأمره ..مع نبرة تهكمية على المتكلّم والمخاطب ..أعني الطاغية الواهم أبدا .. والشعب المطحون منذ البدء …

” أنا مجترح النصّ ومقترف الفكرة، فاسمعو وعووا ما سأجود به عليكم، من حكم وأحكام ومواعظ وأوامر، لتكونوا على بيّنة من أمركم، طوبى لمن سيدخل في رضاي، سيستظلّ بظلّي وينعم بطيّبات جنّتي، أمّا من سينتفخ ويهذي فسحقا له، سأتغمّده بعقوباتي الرحيمة… ، اعتبروني منذ اليوم كبير العائلة، أباكم، واعقلوا قولي فلا أحد أعلم بطبيعتكم منّي، وابشروا … لن تكون لكم رتب متفاوتة ولا عشائر ولا طبقات و لا أحزاب، أبشروا فمنذ اليوم لا مال ولا مرابين، أبشروا لن تكون لكم أسماء وألقاب تتنابزون بها، اصطفّوا أمام حضرتي الجليلة لأرقّمكم … ، لا تتدافعوا فكلّكم أرقام ولا فرق بين رقم وآخر إلاّ بالطاعة العمياء لي أنا الصفر الأعظم.

 

هنيئا لكم بي أيها الأرقام، فلم تصب سلالتكم المستعبدة المدجّنة المقموعة المقهورة، بطاغية أفدح صدقا وشفافيّة منّي، لم تلق عليكم الرياح اللواقح، بحاكم عادل أشدّ صراحة منّي، أنا الحقّ وما عداي باطل، فالامتثال الامتثال والانصياع الانصياع، لأقسم بذاتي المتورّمة العظيمة، إنّي آكلٌ كلّ من يرنو إلى مقامي هذا، تيقّنوا أنّ السفّاح ويزيد ونيرون والحجّاج، ومراد الثالث والحاكم بأمر الله وفرانكو وستالين، وهتلر وشارون وأولمرت وبقيّة المبشّرين بي، قطط منزلية وديعة إن قورنوا بي وجازت المقارنة، أنا الصفر الأعظم والحيوان الأكبر، الوضوح ديدني والتعرّي التام مصدر فخري واعتزازي، أمّا قوّتي فتكمن في تصالحي مع ذاتي المفترسة.

أيها الأرقام، لا خوف عليكم منّي، إن استوعبتم وعيدي وتفاديتم إزعاجي فتحاشيتم نقمتي، تنفّسوا وابتسموا، أرقصوا إن شئتم، افرحوا وابشروا فأنا أبوكم العطوف، سأتغمّدكم باللذة وأغمركم بالمتعة،  سأتخمكم  نشوة… ، لن يموت رقم واحد منكم إلاّ منطفئا تماما، لا وميض لشهوة واحدة فيه…  ، وطوبى لمن سيجد الوقت والقدرة على الترنّم بموّال الوداع: ” أنا لم أُوجد، ولست بموجود، ولا أبالي.. ”

أعلم أنّ ديدنكم الفوز باللذة، وأقسم بالحيوان الكامن فينا، أنّني لن أستحوذ عليها، ليس حبّا فيكم، بل تفاديا للوقوع في الفخّ الذي أهلك الجبابرة، قبل انبلاج وجهي الساطع، اللذة للجميع دون تمييز ولا تفاوت ولا إقصاء، اللذة من المهد إلى اللحد، اللذة في الجزاء والعقاب، بل هي الجزاء والعقاب، وسأشرح لكم هذا الأمر لاحقا، إن عنّ لي ذلك، اللذة للجميع إذن، أمّا سلطة الإشراف على تقسيمها وتوزيعها، فلي وحدي، هذا أساس فردوسي، جنّة الحيوان، ثقوا ألاّ ثقة لي في أحد، فمن حقّي وواجبي أيضا الشكّ فيكم جميعا، ومن حقوقكم وواجباتكم كذلك الوثوق الأعمى بي …

لا تطمعوا في ثقتي مطلقا وثقوا أنني سأدلّلكم وأغدق عليكم من نعمي، دون أن أسهو عن تبجيل ذاتي العزيزة،

اطمئنّوا…  اطمئنّوا، فلست من سلالة المصلحين والمجاهدين وحماة الوطن والدين، أنا الحاكم بأمري، أسّست هذا الخراب العظيم وأطلقت فيه حواسي، ومن البداهة ألاّ يختلس مالك الملك بعضا من أملاكه، أنا الخالد في عرشي اللغويّ، ولا خوف يدفعني للانقضاض على الحياة، لم اللهفة ما دمت معصوما من الآفات الثلاث: الموت والثورة وما يسمّى بالتناوب الديمقراطي … ؟، تلك التي حرّضت أحبابي الطغاة على الضمّ واللمّ والادّخار والاستزادة، تحسّبا لتقلّبات الأيّام وحماقات الرعاع وتهافت المغامرين، لولا الآفات الثلاث لما لاذوا بالنهم والجشع والشره، ولما اعتصموا بالبذخ والترف… ، لتهوي عليهم رحمتي ودمعتي المؤجّلة، فقد كانوا مؤمنين بالمثل القائل: “لو دامت لغيرك لما آلت إليك”، وهلّم إشباعا والتذاذا، قبل حلول ركب هادم اللذات أو هبوب ثورة على بستان المُلك، وهبوط أحدهم على العرش كجلمود صخر هوى من علٍ، أو انتهاء فترة التسلّط والاحتكام إلى الغوغاء المولعين بصناديق الاقتراع…

 

لتحفر لعنتي عميقا في التراب، وتوغل بعيدا في ملكوت الغبار، حتّى تصل إلى هؤلاء اللصوص الأوباش، وليحتضن التراب والطين والوحل هذه الباقة من أجدادي العباقرة، احتضان الأمّ لأحبّ أبنائها، رغم اختلافـي معهم في طريقة تفتيق الموهبة واستغلال السلطة …

اطمئنّوا فليس في جنّة الحيوان ما يسمح لي بالسير على هدى أجدادي المبدعين، علما أنّ ما ذكرته لكم الآن، يعدّ جناح بعوضة في حافر زرافة، اطمئنّوا قد قطعت الطريق على الحضارة المدجّجة بأدوات الزينة والتأنّق، ووسائل الإسراف والتبذير، وأعدتها إلى التراب، فأنا لا أجد لذّتي في مثل هذه الأمور السخيفة، نشوتي العظمى أن أسترخي على ربوة الحكم أبدا……”

شاهد أيضاً

أمازونات الزراعة: ليبيات يعدن إلى الأرض

تقرير / ريما الفلاني – الصباح لم يخطر على بالي وانا اتجول في أروقة  “  …