محمد الهادي الجزيري
هكذا فجأة …في الثاني والعشرين من فبراير 1942 استيقظ العالم دون ستيفان زفايغ. ما الذّي مثّله خبر انتحاره ؟ هل فقد زفايغ الثقة في الإنسان الذّي سخّر حياته كلها لأجله أم أنّ الخلاص انعدم حتّى في البرازيل نفسها المحطّة الأخيرة للكاتب النمساوي؟
أسئلة كثيرة تدور على حدث غامض ومريع، لم نظفر بإجابة عنها إلى الآن لأنّ أعمال زفايغ بقيت تُقرأ في مستوى السطح:
لاعب الشطرنج وخطاب النهايات
مهما اختلفنا في تسمية ”لاعب الشطرنج” قصّة طويلة أو رواية قصيرة فإنها تظلّ العمل الأخير الذّي كتبه ستيفان زفايغ وانتحر بعده بخمسة أسابيع فقط، ولعلّ ذلك ما جعله خطاب وداع تتكثّف فيه رؤيته لمعاناة البشرية في فترة من أحلك فتراتها (بداية الحرب العالمية الثانية) وتعتملُ داخله مواقف زفايغ التّي قد تفسّر لنا أخطر قرار اتخذه في حياته.
رقعة الشطرنج وتعدّد اللاعبين
تعني كلمة شطرنج بالألمانية الرقعة والمملكة في الآن ذاته، فمن الجذر نفسه اشتقت الكلمتان، ولئن كانت الحكاية الأساسية في هذا العمل تدور على فتى صغير غرق والده في البحر وتكفّل بتربيته رجل دين عجزت كلّ أدواته عن فهم الخمول الذّي أصاب الصبيّ والعجز الذهنيّ الفادح الذّي جعله متخلفا عن أقرانه، فإن لحظةً حاسمة في مسار الحكاية تكشف عن نبوغ مفاجئ لهذا الفتى الذّي فاجأ الجميع بإتقانه اللعبة بعد تأملات مسائيّة لرجل الدين ورجل الأمن وهما يتباريان…
حكاية داخل حكاية
تجري الأولى على متن باخرة من سان فرانسسكو إلى ري ودي جانيرو وفيها يلتقي الراوي بلاعب الشطرنج، أما الثانية فتحفر في ماضي هذا البطل، تبدو الأولى بسيطة مشوّقة، مجموعة من المسافرين يرغبون في مباراة واحدة مع بطل لا يعرف غير الربح ولا يرغب في غير الكسب المادي، أما الثانية فتضطلع بطابع القرينة التّي تجعل الحكاية الأولى حكاية رمزية. ومثلما نبغ لاعب الشطرنج فجأة في صباه، يظهر على متن الباخرة فجأة محامٍ خارج للتوّ من السجن، يتدخّل في مجرى المباراة بين لاعب الشطرنج ومجموعة المسافرين فينتصرون عليه وإذا بالبطل يرغب في الثأر والمحامي ينسلخ عن القيم التي آمن بها ودافع عنها وينساق وراء الربح، ما الذي يفسر في هذا كله واقعة انتحار الكاتب وما علاقته بخطاب النهايات؟
كش مات الإنسان
لم يترك زفايغ شخصية واحدة في عمله لم يوجّه لها إدانة صارخة، أليس من المفروض أن تنتج تربية رجل الدين فتى صالحا؟ حمّالا لمنظومة قيميّة وأخلاقية متناغمة ؟ ما الذي خرج من رداء رجل الدين؟ لاعب لا يفكر في غير الربح والربح من أجل الربح؟
إن الإدانة الأولى التّي يوجهها زفايغ لرجل الدين تقول لنا لقد أصبحت الكنيسة عاجزة عن أداء دورها، فما الحاجة إليها؟ والمحامي الذّي لم يبح بأسرار موكليه متحملا عذاب السجن انتهى بعد إيمانه بمنظومة القيم التّي تعلي من شأن الإنسان وتحفظ كرامته وأسراره إلى مجرد محموم بالربح، الفضاءات نفسها عبّرت عن فكرة انسداد الآفاق ، فكلّ أحداث الرواية تجري في فضاءات مغلقة: الباخرة، النزل، السجن داخل النزل، ولا حضور لفضاء مفتوح واحد، حتّى النافذة في غرفة السجين لا تفتح على غير جدار شاهق. وغابت المرأة من القصّة كلّها، فلم تحضر سوى مرة واحدة بوصفها مجرد ديكور، فهل هناك خلاص بعد كلّ هذا؟
جاء في غلاف الطبعة الجديدة لهذه الرواية الصادرة مؤخرا عن دار مسكيلياني في ترجمة بديعة للشاعرة التونسية سحر ستالة قول زفايغ في رسالته الأخيرة إلي صديقه هرمان كيستن: ليس هناك شيء مهمّ أقوله عن نفسي، كتبت قصّة قصيرة حسب أنموذجي المفضّل البائس ، وهي أطول من أن تنشر في صحيفة أو مجلة وأقصر من أن يضمها كتاب، وأشد غموض من أن يفهمها جمهور القرّاء العريض وأشد غرابة من موضوعها في حدّ ذاته
فهل تغلّقت أبواب الخلاص وآن الأوان لكي نقول للعالم وداعا ، أم أنّ الأوان قد حان لنقرأ أعمال زفايغ قراءة تستجيب إلى شرط العمق الذّي دفع الكاتب حياته من أجله، من أجل أن يخبرنا بمعاناتنا، معاناة الإنسان وهو يسير شيئا فشيئا إلى حتفه؟