عبدالسلام الغرياني
رحل ماريو فارغاس يوسا، يوم الأحد 13 أبريل 2025 عن عمر ناهز 89 عاما، لكن رحيله لم يكن اختفاءً، بل تحوّلًا إلى أسطورة تتناقلها الكلمات كالنار في أرشيف الذاكرة الإنسانية. رحل الدون رودريغو، الطاغية الذي صاغ من وحشة السلطة عالماً تائهًا بين الخوف والجنون، ورحل معه “السلتي الحالم” الذي حوّل تاريخ القارة إلى لوحة ملونة بدماء المهمّشين وأحلام الثوار. كان يوسا ساحرًا استثنائيًّا، لم يكتف بسرد التاريخ، بل صنع تاريخًا موازيًا لأمريكا الجنوبية، تاريخًا يكشف عن الوجوه المشوّهة تحت أقنعة الانقلابات والاستبداد، ويُعيد للضحايا أسماءهم الضائعة في رمال النسيان.
وُلد ماريو في مدينة أريكويبا البيروفية (1936)، حيث حمل منذ طفولته عبء انفصال والديهِ وصراعات عائلة ممزقة بين الأرستقراطية البائدة وواقع اجتماعيّ فقير. عاش بين جدّ متشبث بمجد زائل، وأمّ مكافحة تحمل هموم الحياة على كتفيها، في مجتمع تتفجر فيه التناقضات الطبقية كبركان خامد.
هذه البيئة القاسية صقلتْ وعيه المبكر بالظلم، فتحوّل الألم إلى حبر يسيل على الورق، مشكّلًا لاحقًا عوالم روائية تتعاطف مع المنسيين وتكشف زيف الأنظمة المستبدة.
لم يكن فارغاس يوسا مجرد راو و حسب، بل مهندس كون سردي يعيد تشكيل الواقع عبر عينٍ لا ترى إلا ما خفي عن الآخرين. في “المدينة والكلاب” (1963)، مزّق ستار المؤسسات العسكرية ليكشف عن وحشية تغذيها الثقافة الذكورية والفساد. وفي “البيت الأخضر” (1966)، نسج حكاية عن صراع الحضارة مع البراءة في أدغال الأمازون، حيث تذيب الرغبات البشرية حدود الأخلاق. أما “حرب نهاية العالم” (1981)، فكانتْ رحلة فلسفية إلى أعماق الإيمان والجنون، بينما حوّلتْ “حفلة التيس” (2000) سقوط ديكتاتورٍ إلى تراجيديا عن فساد القوةِ المطلقة. كل عمل كان بوابة إلى عالم يختلط فيه الواقع بالأسطورة، وكأنّ يوسا يخاطب قارئه: “هذه هي أمريكا الجنوبية التي لم تُرو بعد!”.
لم يقتصرْ تأثير يوسا على جيله، بل امتد كشجرة دفلى تظلِّل أجيالًا من الكتّاب الذين تعلموا منه أن الرواية سلاح ضد التزييف والنسيان. علَّمهم أن يخترقوا السرد التقليدي، ويُجزِّئوا الزمن، ويخلقوا شخصيات تعيش على حافة الانهيار. أظهر أن الأدب ليس ترفًا، بل مرآة تكسر صمت التاريخ الرسمي. حين فاز بنوبل (2010)، كان التتويج رمزًا لانتصار صوت المهمشين في آداب العالم.
وراء وصول عوالم يوسا الساحرة إلى القارئ العربي، وقف ساحر آخر “صالح علماني”، المترجم الذي نقل بأمانة وشغف روائع يوسا إلى العربية، كاشفًا عن عوالم كانت محجوبة خلف حواجز اللغة. لم يكن علماني مجرد ناقل للنص، بل شريك في إبداعه، فترجمته لـ”حفلة التيس” و”البيت الأخضر” و”حرب نهاية العالم” كانتْ إعادة كتابة تحافظ على نبض اللغة الإسبانية وروحها، دون أن تفقد جمالية العربية ورونقها. بفضله، استطاع القارئ العربي أن يسمع صدى صرخات أمريكا الجنوبية، وأن يرى في يوسا مرآة تعكس همومه هو أيضًا: قمع السلطة، و صراع الهوية، وحلم الحرية. علماني، كالساحر الخفي، حوّل الترجمة إلى جسر بين ثقافتين، يذكرنا أن الأدب العظيم لا يعترف بالحدود.
يُعد يوسا، في تقديري أبرع من كتب بالإسبانية في القرن العشرين. لم تكن لغته مجردَد وعاء للحكايات، بل كائن حي يتنفس بتناقضات القارة اللاتينية. جمله المليئة بالتفاصيل تشبه سكاكين تقْطع القشرة الظاهرة للواقع لتكشف عن الأعماق المليئة بالأسرار. في نصه، تصبح اللغة طقسًا شعبيًّا، مزيجًا من لهجة الشوارع وبلاغة الفلاسفة، وكأنما أراد أن يقول: “هكذا تتحدث أمريكا الجنوبية أو اللاتينية حقا!”.
اليوم، رحل ماريو جسديا، لكن كلماته باقية كالنجوم التي تضيء سماء الليل حتى بعد انفجارها. وفي كل صفحة تترجم إلى لغة جديدة، يولد تاريخ مواز آخر للقارة الفتية، تاريخ يهمس: “اقرأني، فأنت أيضًا جزء من هذا الجنون الجميل”. أما صالح علماني، فسيظل ساحر الكلمة الذي جعل هذا التاريخ يحاكي العربية بلغتها، مثبتًا أن الأدب العظيم لا يموت؛ بل ينتقل من قلب إلى قلب، عبر ألسنة ترفض الصمت.