منصة الصباح

ذاكرة .. الجوهرة التي لا تحتاج إلى صقل « ناجي الطبال »

في  الثمانيات – على ما أذكر- كانت لخطوات واثقة وقعٌ مميز في أروقة الإذاعة بمقرها في شارع الشط ، ولم يكن بالإمكان تجاهل صاحبها  ، فقد كان يشع أٌنساً وبهجةً يحتاجها الجميع دون النظر إلى مصدر الإشعاع والعمر الحقيقي لباعثه ،  أو حتى عمره المهني في المؤسسة …

لم يكن ذلك المشع بالبهجة إلا  العزيز « ناجي الطبال « الذي كان صفاؤه جاذباً بعفوية ، و بما  أن رغبات البعض وأنا منهم ، قد  تجاوزت حدود الاكتفاء بمتعة عابرة أو مؤقتة للعيش مع هكذا صفاء ،  فإنه قد  تم السعي للانغماس بالسباحة فيه والغوص فيه ، و لم أعدم شخصياً الأسباب المبررة لذلك  والتي تمحورت في مقتضيات العمل المهنية والتي كانت خير ذرائع  بما أنها في النهاية ستشكل  الجسور للعبور نحو ضفة قلما يلاقيها الإنسان من المحبة والود والتفاني والإخلاص  .

عزالدين عبدالكريم

ففي الدور الثاني من مقر الإذاعة ، أُستقطع جزء  خصص لأستوديوهات التسجيل الصوتي وكانت صغيرة الحجم  ابتداءً من  استوديو ذات الارقام : 3 ، 4 و 5 ، وفي هذه الاستوديوهات الضيقة جداً ، تحولت المجالات المحصورة بأمتار قليلة  إلى آفاقٍ رحبة بحجم السماء ، لما اضافه الصديق والزميل ا ناجي ا من روح دافعة للأداء المتميز صوتياً ، رغم كون علاقته المهنية الصرفة كانت متركزة على جودة المنتج الإذاعي  هندسياً ، إلا أنه كان متفاعلاً مع المنتج الموضوعي ، مقترحاً تطويره  بانتشاء قل نظيره أكثر الأحيان ، مما جعله  بالنسبة لي على الأقل مشكل لوحدة قياس أولى لما ستكون عليه ردود فعل المستمعين لما أنتجه اعداداً وتقديماً و اخراجاً.

ارتبطنا سوياً في برامج كثيرة ، لكن أشهرها كان برنامجاً إذاعياً يومياً باللغة الإنجليزية ، كنت أقدمه في محطة الإذاعة الثانية بعنوان ا موسيقى على الهواء ا  ا Music on the air ا لكن ما جعل لوجوده قيمة مضافة وأضيفت بالتالي للبرنامج ، هو حسه الموسيقى المرهف ، وثقافته الواسعة بالإنتاج العالمي ، وحسه الموسيقي هذا ، كان مهماً ومفصلياً للوصول إلى لمسات غاية في الدقة على المستوى الهندسي ، في كونه يحدد نقاط الدخول والهبوط بمستوى الخلفية الموسيقية ، ثم الارتفاع لطغيان الموسيقى ، كل ذلك في تناغم مع النصوص و على أسس الحس الإيقاعي الذي كان من الصعب عليه اخفاؤه حتى بدون وجود موسيقى في الجوار .

خطواته  كانت إيقاعية ، لغة جسه كانت إيقاعية أيضاً ، وعندما تتزاحم الألحان فيه ، تتبعثر الحروف التي يحاول ضبطها لتعبر عن أفكاره ، فقد  كان يعاني من وجود صعوبة في الموائمة بين زخم إحساسه الموسيقي ، والتعبيرات اللفظية  الشارحة لوجهات نظره  ، نظراً لأن الحس من الصعب التعبير عنه ، وإن حدث فإنه لا يلامس ما ينبض دائماً في الوجدان .

تحول العمل لإنجاز هذا البرنامج اليومي ، من واجب عملي ناتج عن التزام مع المستمع والإدارة ، إلى فسحة للمتعة الصرفة ، التي لم أريدها أن تنتهي ، درجة أننا أحيانا ننجز العمل ، ونزيد عليه بعمل آخر ، فيكون إما حلقات احتياطية ، أو تجربة أفكار إبداعية جديدة تأسيساً على رؤى غير مسبوقة .

لذلك … عندما انتقل للعمل في أستوديو الفجر بتقنياته العالية كونه الأستوديو المتأسس على تقنيات القنوات المتعددة للمنتج ا24 Tracksب لم استغرب ، لكنني امتعضت، والامتعاض كان ناتجاً عن إدراكي لفقدان الصحبة اليومية وقلة الالتقاء به يكما تعودت ، إلا أن استحضار حقيقة أنه كان ممتلئاً أنغاماً وإيقاعات ، منحني صبراً على بعاده ….

السعادة كانت جامحة عندما جمعتنا الظروف في عمل موسيقي في استوديو الفجر ، وكنت على علاقة شبه وثيقة بالعمل ، خاصة وأنه تميز بحساسية عالية ، وفكرته تأسست على مبدأ العمل التطوعي للجميع بما في ذلك الفرقة الموسيقية، كان ذلك عمل  بعنوان ا عوض الله علينا ب أو بعنوان ثانوي مبتكر ا لمة عرس ا على اعتبار أن جملة ب عوض الله علينا ا كانت تثير استفزازاً مستحباً عند الكثيرين في تلك الأزمان  والذي قام بأدائه الفنان خالد عبدالله .

حتى عندما كنا في حالة عمل لإنجاز شئ ، فقد كانت قهقهاتنا تعلن عن فضاء السعادة الذي غلفنا ، خاصة وأنه كان يتلذذ بمشاكساتي التي تلخصها مفرداتي ومناداتي له  القاسية ، لكنها تصدر من منابع محبة هو شجع على تدفقها بكل الحب والود ، فينفجر بالضحك ، أما عندما تزداد جرعة الحب فإن المشاكسة الحركية بالأيدي معه  ، كانت تكاد تخنقه من القهقهات ، وازداد للجوقة ملحن العمل ا رمضان أبو الاسعاد ا غفر الله له هو الآخر ، فانقلبت الأوقات إلى متعة حُفرت في الوجدان وتركت آثارها فيه ، حتى أنها تعيد استدعاء اللحظات حتى بعد غيابه  السنين ….

لقد خسرنا شخصية استثنائية هدهدت نفوسنا عند الألم ، أنعشت أرواحنا عند زيارة اليأس ، رمتنا في طبقات عليا من السماء عند الانكسار  ، وبهذا  كان هو رابحاً منتصراً بفوزه بما يصعب تركه من آثار في النفوس والأفئدة  ، فذكراه وآثاره بقت بذات وهج حضوره حتى بعد غياب جسده .

غفر الله له وأسكنه فسيح جناته ،،،،

 

 

شاهد أيضاً

في عامها التسعين: كل عام وأنتِ فيروز الماضي والحاضر والمستقبل

الحديث عن السيدة فيروز، لا يحتاج لأي شرح، يكفي أن تستمتع لأعمالها الفنية الثرية، التي …