باختصار
مساء كل خميس يحملني الطريق شرقاً نحو زليتن، حيث مسقط رأسي وبيت والدي اللذين لا تنقطع إليهما الخطى. رحلة اعتدتها كطقس أسبوعي، تبدأ عادة بعد صلاة العشاء، هروباً من الزحام الذي يشتعل من بعد عصر كل خميس حتى قبيل آذان العشاء، حين يتزاحم العائدون من العاصمة إلى الخمس وزليتن ومصراته وكل المدن الموزعة على طول الساحل بين طرابلس وسرت.
لكن ما يلفت النظر في هذا الطريق ليس فقط زحام العائدون، بل ما صار يعرف – تجاوزاً – بمواكب الأفراح، وهي في حقيقتها مواكب تهور، لا تنتمي للفرح في شيء.
شباب يقودون مركباتهم كأنهم في مشهد سينمائي لا يعترف بوجود الآخرين، سيارات تقاد بجنون، ضجيج أبواقها المتنوعة، واستعراضات لا علاقة لها بالفرح ولا حتى بالذوق والآداب العامة، وسط طرق مزدحمة تمر بها عائلات وأطفال ومرضى ومسنين.
مواكب للعريس تملأ الطريق ضجيجاً وخطورة، وأخرى لأهل العروس وهي تنتقل من مدينة إلى أخرى، لكن المشترك بينها جميعاً هو الغياب التام للعقل والحكمة.
المثير للسخرية أن هذا الطيش والتهور لا يقابل برد فعل، لا من الناس، ولا من الدولة، وكأن الموت صار ضيفاً عادياً على أفراحنا.
اللوم لا يقع على هؤلاء الشباب وحدهم، بل على كل من كان قادراً على التوعية أو الردع، أو التوجيه، لكنه اختار الصمت عن مقاومته لهذا العبث.
أين الخطباء من هذا النزيف الأسبوعي؟ لماذا لا تتحدث منابر المساجد عن هذه الظاهرة؟ لماذا تكتفي بالخطب الجافة حول النوافل والسنن، وتغض الطرف عن سلوك يومي يهدد أرواح الناس في الطرقات؟
وأين مؤسسات المجتمع المدني التي ملأت ملفاتها بشعارات التوعية المجتمعية، ثم لم نر منها منشوراً واحداً في يوم الخميس، حيث تتحول الطرقات إلى مسرح للتهلكة؟
أما الأجهزة الأمنية، فدورها في هذا المشهد لا يقل صمتاً عن سابقاتها، تجد سيارات الشرطة بجانبي الطريق، يشاهدون هذه المواكب الطائشة، وربما يضطرون لفتح الطريق لها، بدلا من إيفاقها ومخالفة أصحابها.
لكن الطامة الكبرى تكمن في صمت العقلاء (أصحاب الجرود والقبعات البيض والسود)، أولئك الذين يرون ويفهمون، ويعرفون حجم الخطر، ثم يلوذون بالصمت، وكأن الحكمة تكمن في الحياد لا في الموقف… هؤلاء العقلاء لن يظهر لهم صوت إلا بعد أن تقع الكارثة، عندها يأتون للمتضرر طالبين منه التنازل عن حقه، واصفين ما حدث أنه قضاء وقدر، وهم يعلمون جيداً أنه ليس كذلك.
هذا الصمت ليس حياداً كما يدعون، بل مشاركة في الجريمة، بصمت هو في الحقيقة تواطؤ مقنع وتقصير أخلاقي في لحظة تستوجب أن يكون الصوت أعلي من الخوف، والموقف أوضح من الغموض، فهؤلاء لا يمكن اعتبارهم عقلاء، بل هم شهود زور علي خراب يتسع ومجتمع يدمن الصمت حتي يصبح الصمت ذاته جزءاً من الجريمة.
ليست المشكلة في أن نفرح، بل في الطريقة التي نفرح بها. فالفرح الذي يعطل السير، ويرعب الآمنين، ويعرض الأرواح للخطر، لا يسمى فرحاً، بل تهوراً اجماعياً.
إن الطريق من طرابلس إلى زليتن نموذج يعكس صورة الوطن، زحام من دون نظام، صمت من دون وعي، وفرح من دون عقل، وهي ليست حالة استثنائية، بل هناك طرق ليبية كثيرة تعاني من هذه التصرفات، وكأن الفوضى أصبحت القاعدة… والانضباط هو الاستثناء.