د.علي المبروك أبوقرين
في وطن عرف الجفاف قبل الماء ، والمرض قبل الدواء ، والجهل قبل المدرسة ، كان الحلم الأكبر هو أن يصبح للإنسان صحة لا يخاف عليها ، وعلماً لا يُنتزع منه ، وكرامة لا تُساوم ، فكان القطاع الصحي العام هو الكتف الذي حمل الناس حين كانت الحياة أقل رحمة ، وكان المستشفى العام هو البيت الرابع بعد البيت والأسرة والمدرسة ، لا مجرد مبنى أبيض وسرير معدني وطبيب مناوب ، فالقطاع الصحي العام لم يكن مجرد عيادات وأسِرة وأطباء ، بل منظومة دولة ، ورحلة حياة ، ومظلة إنسانية تبدأ قبل الولادة ولا تنتهي مع الموت ، منظومة تُعنى بصحة الفرد والأسرة والمجتمع ، والبيئة والعاملين والمستقبل والأجيال ، لا بصحة من يعاني اليوم فقط ، منظومة يقودها طب جماعي لا طب فردي ، وقرار علمي لا قرار مالي ، وإجماع مهني لا توقيع منفرد ، ورأي لجان علمية لا استشارة تجارية ، وأدلة إكلينيكية لا اجتهادات مزاجية ، وبروتوكولات بحثية لا نصائح تجريبية ، ومراجعات وتدقيق ونتائج موثقة لا وعود شفوية ، في القطاع العام يكون الطبيب جزءا من فريق طبي لا بائع خدمة ، له رئيس قسم ، ومسؤول جودة ، ولجان أخلاقيات ، وعيادات مشتركة ، ومسؤوليات موثقة ، وبحوث خاضعة للرقابة ، وقرار العلاج ليس ذمة فردية بل مسؤولية مؤسسية مشتركة تُحاكم علميا وليس ماليا وتُضبط بنتائج ، والعام لا يعالج مريضا فقط , بل يرعى مجتمعا كاملا ، ويلاحق المرض قبل ظهوره ، ويتوقع الخطر قبل وقوعه ، ويمنع الأزمة قبل انفجارها ، أما القطاع الصحي الخاص مهما حَسن فهو بطبيعته علاقة فردية مغلقة بين مريض وطبيب ومؤسسة مالية ، لا تستهدف مجتمعا ، ولا ترصد وباءً ، ولا تدرس معدل وفيات ، ولا تحلل بيانات دولة ، ولا تلاحق أسباب الأمراض في المدارس والبيئة والاقتصاد ، الخاص يقدم خدمة علاجية عند الطلب ، بينما العام يقدم منظومة حماية صحية مستدامة مدى الحياة ، والخاص يملك مرضاه , أما العام فيملك صحة الأمة كلها ، وفي الخاص العلاقة مرتبطة بقدرة الدفع , بينما في العام مرتبطة بالحق الإنساني ، والفارق الأكبر والأخطر ليس المبنى ولا المعدات ولا الأطباء ، بل البيانات والمعلومات الصحية الوطنية ، لأنها مرآة الوبائيات ، وخارطة السياسات ، وقاعدة التخطيط الصحي ، وذاكرة الأمراض ، وصندوق المستقبل ، في القطاع العام البيانات ملك للدولة والمجتمع والبحث العلمي ، محمية ضمن سيادة صحية وطنية لا تُقايض ولا تُباع ولا تخرج عبر منفذ تجاري ، بينما في القطاع الخاص البيانات ملك المؤسسة وليس الوطن ، تُستخدم للتسويق لا للتخطيط ، وللزبائن لا للأجيال ، وهذا وحده كاف ليفهم أن القطاع الخاص لا يستطيع لعب دور الدولة مهما توسع ، وعندما يتداخل العام بالخاص بلا ضوابط ، ويمتلك الطبيب بابين للعلاج ، ويمتلك الصيدلي منفذين للدواء ، ويمتلك المدير قناتين للشراء والإحالة ، تصاب المنظومة الصحية في عقيدتها المهنية قبل بنيتها التنظيمية ، ويضيع الانتماء ، ومن هنا يصبح الفصل بين العام والخاص منصة إنقاذ لا سياسة عقابية ، ومحور ميثاق أخلاقي لا بندا إداريا ، ولا يمكن أن يُحمل القطاع الخاص مهمة لم يصمم لها ، ولم يُنشأ عليها ، ولم يُعَد مؤسسيا لتحملها ، فالقطاع الخاص له ملايين من العمالة الوافدة ، والغير مستقرة ، والشركات الأجنبية العاملة في مجالات النفط والغاز ، وفي الإعمار والبنية التحتية ، والشركات الاستثمارية الأجنبية ، والسفارات والسياحة ، وقد يتطور القطاع الخاص لجذب السياحة العلاجية من دول الجوار والدول الأفريقية التي تفتقر للخدمات الصحية ، والاوروبية التي تعاني من قوائم الانتظار والتكلفة العالية والنقص في القوى العاملة الصحية المؤهلة ، إن صحة الأمة ليست نشاطا خدميا ، ولا صفقة مالية ، ولا فرصة استثمارية ، بل قضية سيادية أخلاقية إنسانية مستقبلية ، وإن الدولة التي تفقد وحدة قرارها الصحي ، وسيادتها على بياناتها ، ونقاء رسالتها ، وولاء كوادرها ، تفقد ببطء ما هو أخطر من المال تفقد مشروع وجودها ، ولهذا فإن حق العلاج العام المجاني الآمن عالي الجودة ليس امتيازا ، بل قدرا أخلاقيا لا يمكن التراجع عنه ، والفصل بين العام والخاص ليس تعليمات بل حماية للضمير والمهنة والناس ، وتجريم تضارب المصالح ليس قانونا بل قسم شرف وطني وصحي وإنساني ، فمن دون ذلك مرضا أغلى ، وفقراً أعمق ، وجهلا أوسع ، وأجيالا بلا مستقبل صحي آمن ، والصحة ليست لمن يستطيع الدفع بل لمن يحتاج أن يعيش ..
منصة الصباح الصباح، منصة إخبارية رقمية