منصة الصباح

دراسة عن السلطة والفساد في ظل الدكتاتورية

عبدالسلام الغرياني

على الرغم من أن معظم روايات ماريو بارغاس يوسا — الذي غادرنا يوم الأحد 13 أبريل 2024 — وجدت طريقها إلى المكتبة العربية عبر ترجمات رائدة، إلا أن رائعته الأهم “حوار في الكاتدرائية” ظلَّت بعيدة عن القارئ العربي. الرواية التي يُجمع النقاد على أنها ذروة إبداعه السردي، والتي تُفكك تعقيدات السلطة والهوية في بيرو الديكتاتورية، ما زالت حبيسة اللغة الإسبانية، في غياب مُترجمٍ يليق بتحديات نصٍّ يجمع بين العمق الفلسفي والبناء الفني المُعقَّد. وبفقدان الراحل صالح علماني — الفارس الذي نقل أعمال يوسا ببراعة — صارت الحاجة ملحّة إلى فارسٍ جديد يخوض غمار هذه المهمة، ليُضيء للعربية عملاً أدبيًّا يُعدُّ حجرًا أساسيًّا في فهم أدب أمريكا اللاتيني وتاريخه.

هنا محاولتى لقراءة الرواية في نصّها الانجليزي:

في روايته “حوار في الكاتدرائية” (1969)، ينسج ماريو بارغاس يوسا سجلا وجوديا للسلطة التي تنهش الجسد الاجتماعي، وتفضي أسرار الفساد كجراح نازفة في ظل ديكتاتورية مانويل أ. أودريا ببيرو الخمسينية. لا يقود العنوان القارئ إلى صرح ديني، بل إلى حانة متهالكة في قلب ليما، تحمل اسم “لا كاتيدرال”، كأنها استعارة لقبو مظلم تختزن فيه اصداء التاريخ. هنا، يلتقي الصحافي سانتياغو زافالا — بوجه يعكس تصدع اليقين — بالسائق امبروسيو، شبح من ماضي والده، في حوار ثمل بالاسئلة المعلقة. ما يلبث أن يتشظى الحوار إلى سرد متعدد الاصوات، كمرايا محطمة تعكس وجه بيرو المنهكة: سلطة تبتلع أبناءها، وطبقات تسحق المهمشين، وأحلام تتحول إلى غبار تحت نعل التاريخ.

بين طيات هذا النسيج الروائي، يصير الحوار الفوضوي محكمة سرية: تتعرى فيه الخيانات الصغيرة، وتفضح مسرحية “الوطن” الذي يبيع أبناءه في سوق السلطة والانتهازية. ليست الرواية هي رثاء لجيل حلم بالتغيير، فوجد نفسه غارقا في وحل التناقضات..

البناء السردي: فسيفساء الأصوات

تتقن رواية يوسا لعبة السرد كأنها لغزٌ وجودي، حيث تتحول التقنية من قوة جمالية إلى تحدّ للقارئ. تنسج الحبكة عبر متاهة من الحوارات المتشابكة، تتداخل فيها الأزمنة والمواقف بلا فواصل، فتمتزج محادثة سانتياغو مع أمبروسيو في الحانة العتيقة بمؤامرات النخب وصرخات المعتقلين تحت التعذيب، في فقرة واحدة. هذا التقطيع السردي هو مرآة لفوضى عصرٍ بكامله، حيث تتلاشى الحدود بين الخاص والعام، بين الضحية والجلاد..

يقول سانتياغو، في شجنٍ يعكس تناقضاته: “كنت مترفا جدا، لهذا غادرت. كنت ساذجا ومتحجرا لدرجة أنني ضقت ذرعا بحياة سهلة وبكوني فتى لطيفا.”

ويضيف، في إدانة ضمنية لوالده: “والدي المسكين لم تكن لديه أفكار سياسية، بل مصالح سياسية فقط، يا أمبروسيو.”..

هذا البناء غير الخطي يشبه إبحارا في نهر متشعب، يتطلب من القارئ أن يغوص في الأعماق ليجمع شتات الصورة. لكن الغوص هنا لا يكافئ باللؤلؤ، بل بإدراك مرير: أن التاريخ الشخصي للشخصيات ليس سوى حلقة في سلسلة فسادٍ تمتد من صالونات البرجوازيين إلى أقبية الشرطة. تقنية يوسا — التي تستحضر تجارب فولكنر وجويس — تكشف كيف يتشابه العفن الاجتماعي في كل الطبقات، وكيف تُخلق الخيانات الكبرى من تراكم الخيانات الصغيرة..

هكذا، يصير السرد نفسه رسالة: الفساد لا ينهش جسد الدولة فحسب، بل يذيب حتى حلم الفرد بالخلاص.
الموضوعات: الفساد والطبقة واليأس
تغوص الرواية في دهاليز المجتمع البيروفي لترصد تحلله الأخلاقي تحت وطأة الديكتاتورية. سانتياغو، الابن الهارب من عباءة عائلة ثرية، يرفض امتيازات الولادة ليعتنق مثالية يسارية واهمة، قبل أن تطحنه الحياة فيصير صحافيا ساخرا. في المقابل، يمشي أمبروسيو — الرجل الأسود من طبقة المعدمين — على حبل مشدود بين البقاء والانزلاق إلى مستنقع التواطؤ.

بينهما تتقاطع مصائر شخصيات مثل كايو بيرموديز، الدمية القاتلة التي تجسد وحشية النظام، وتكشف أن الشر قد يرتدي بدلة رسمية..

الانقسام الطبقي لا يظهر فقط في الثروة، بل في علاقات الأب والابن: فتوتر سانتياغو مع والده ذي النفوذ، دون فيرمين، يقابله استسلام أمبروسيو لإجرام أبيه. وكما يلاحظ النقاد، فإن تمرد سانتياغو هو ثمرة امتيازه، بينما صمت أمبروسيو مرآة لوضعه كـ”رقم” في معادلة السلطة..

يفضح يوسا نفاق النخبة عبر حوارات كالمباضع:
“من أقنعهم وأصر كان بيرموديز.”
“ذلك التابع يصبح الرجل الأوثق لدى الجنرال.”
هذه التبادلات هي أدوات تشريح لآلية السلطة: كيف تُبنى الإمبراطوريات على أكاذيب صغيرة، وكيف يتحول الخوف إلى عملة تُشترى بها الضمائر..

الرواية، بهذا، تسرد فساد النظام، و أيضا فساد الإنسان حين يصير الوطن سوقًا مفتوحة للخيانة. اليأس هنا ليس نهاية، بل هو النسيج الخفي الذي يربط بين ضحايا السلطة وجلاديها: الجميع يسقطون، لكن السقوط له نغمات مختلفة… فبينما يسقط سانتياغو في فراغ مثاليته، يسقط أمبروسيو في وحل القبول، وكأن اليأس هو اللغة الوحيدة المشتركة في بلدٍ تآكلت أحلامه.
تكوين الشخصيات: دمى السياسة؟

تظل شخصيات الرواية موضع جدل نقدي، كمرايا متشظية تعكس رؤى متضاربة. بينما يراها بعض النقاد “أدوات رمزية” تسخر من النظام السياسي على حساب العمق العاطفي، تبرز أخرى ككائنات تحمل أسئلة وجودية. أصدقاء سانتياغو الجامعيون — مثلا — يتبددون مع تقدم السرد، كظلال لمثالية شابة تذوب في واقع بيرو القاسي. لكن امبروسيو، السائق الأسود، يتحول إلى شخصية تراجيدية بامتياز: صمته المطبوع بالخضوع، وولاؤه المشوب بالذل، يجسدان قمع الطبقات التي تطحنها السلطة دون أن تنطق. علاقته المعقدة بدون فيرمين — المليئة بالصراعات الخفية والتبعية المسمومة — تخلق تناقضا مؤلما، يكشف أن القهر قد يكون أقوى من الدم نفسه..

الانجازات الأسلوبية والانتقادات

لا يزال الأسلوب التجريبي لـ”حوار في الكاتدرائية” ميدانا للجدل. فبينما يشيد البعض بـ”انسجامه السردي” الذي ينسج الفوضى بإيقاع شبه موسيقي، يرى آخرون أن تعقيده المفرط يحوّله إلى لغز عصي على القارئ العادي. كقول البعض بأنها “عمل عظيم لكن شارد”، بينما يرى آخرون أن التقطيع السردي ليس سوى مرآة لتفكك نسيج المجتمع. تبقى قدرة الكاتب على خلق توتر سردي عبر 600 صفحة إنجازا يستحق التقدير، رغم أن الإيقاع يتراجع أحيانا كأنما الرواية تلهث وراء ذاتها.
سواء اختلفت الآراء حول الشكل أو المضمون، تظل الرواية شاهدة على جرأة كاتبٍ رفض أن يُختزل الأدب في خطابٍ أحادي، مفضلا أن يترك شخصياته — كشخوص مسرحٍ عظيم — تصرخ بأسئلتها دون إجابات.

يتأرجح نثر يوسا بين واقعية جارحة وظلال سوداوية، كأنما الكلمات تنزف من جراح الشخصيات. في حوارٍ مكثف، يقول امبروسيو: “أردت أن تعاشرها ولم تستطع بسبب وجود الأخرى. اعرف شعور القرب من المرأة التي تحبها دون قدرة على الفعل.”..

يسأله سانتياغو، في سخرية مُرة: “هل حدث هذا مع أماليا؟”
فيرد: “رأيت فيلما عن ذلك مرة.”

هذه التبادلات تتخطّى الحوارات، إلى شظايا من إنسانيةٍ تحاول النبض تحت سطوة نظامٍ يجرد البشر من إنسانيتهم..

كثيرا ما تُوصف “حوار في الكاتدرائية” بتحفة يوسا التي أرست دعائم جدارته بجائزة نوبل. روايته هذه — وإن كانت كثافتها تحديًا للقارئ السطحي — تظل مرجعًا أساسيًا لفهم تشابك تاريخ أمريكا اللاتينية السياسي مع تجارب السرد الحداثي. عبقرية الرواية تكمن في قدرتها على فضح الفساد دون التخلي عن أناقة اللغة، وكأنما الجمال الأدبي هنا سلاحٌ ضد القبح السياسي..

هذه التحفة الصعبة والغنية تتجاوز سياقها الزمني لتقدم نقدًا كونيًا للسلطة ومساومات الضمير. قد تختبر بنيتها المتشظية وصراحتها القاسية في تصوير الانحدار صبرَ القارئ، لكن من يغوص في أعماقها سيجد مرآةً لجروح الاستبداد التي لا تندمل — لا على جسد الأمة، ولا على أرواح أبنائها. للجريئين على اجتياز متاهاتها، تبقى الرواية شهادةً على عظمة كاتبٍ حوّل الأدب إلى ساحة مقاومة، وإلى دليلٍ على أن الجرأة الفنية قد تكون آخر معاقل الحرية..

شاهد أيضاً

الاتفاقية الدولية لمكافحة الأوبئة

بعد مفاوضات مكثفة ومضنية وشاقة استمرت لأكثر من 3 سنوات متواصلة توصلت الدول الأعضاء في …