زايد…ناقص
بقلم /جمعة بوكليب
لا أُحبُّ أبَا الطيب المتنبي حين يَترحّل متنقّلاً بين قصور الأمراء، يتسوّلُ مادحاً. شِعرُ المديح، عادةً، يخلو من ذات الشاعر الإنسان. من روحه وقلقه وأرقه وألقه، وتحوّلات كينونته في مسارات الحياة صعوداً وهبوطاً. فرحاً وحزناً. أملا وأنكساراً. ومكانه، يحلُّ شاعرٌ آخر يتوسّل بموهبته أموالاً من خزائن أمراء، بذواتٍ متورّمة. لذلك، حين تراودني نفسي إليه، أختار قراءة قصائده الذاتية. تلك البعيدة عن فخامة قصور الأمراء، والتي يتجلّى فيها المتنبي الشاعر والإنسان، بقوته وضعفه، بعاطفته، و بشكواه، بعيداً عن منازل الضِعة والتسوّل، قريباً من النبع الدافق في أعماق روحه، وفي طريقه صاعداً نحو منازل السُمو مع النجوم، مُحتفياً بالربيع في شعب بوان، أو شاكياً من الأرقِ والقلق، أو معاتباً بود حُمّى ألمتْ به، في وقت تراكمت في قلبه الهموم، أو متذكراً أحبّته في يوم عيد، وقد حالت بينه وبينهم صحارى وقفار.
2
غَريبٌ أمرُ ولاّدة بنت المستكفي. أميرةٌ بنت ملك، ولا تخلو من مُجُونٍ وسُوقية. تبدّل عشاقها كما تبدّل فساتينها، وتفتخر علناً بأنها تمنح قُبلتها لمن يشتهيها. تعشق الشاعر ابن زيدون نهاراً، وفي الليل، تنام على سرير ابن عبدوس أو ابن عبدون لا فرق. و تمنح قرطبة مدينتها، فرصة لتتسلى في ليالي سمرها بحكايات تلك التحوّلات الأنثوية الملكية السُوقية، وأخر اخبار الصراعات بين عشاقها.
وقتها، كان زمانُ الوصلِ بالأندلسِ قد بدأ رحلته نحو المغيب. وحان أوانُ تلاشي ما تبقى في فتيل قنديله من بهجة ودفء وضياء..
ولاّدة بنت المستكفي، وكأنها حدست بتلك النهاية، فقررت التمرد، والتخلص من وقار الأميرات وخجلهن، من أجل أن تحيا، أن تتذوق آخر ما تبقّى من لذّة في أنساغه ، قبل أن يطالها يباس.
ذلك التمردُ هو ما جعلَ ولاّدة، على مرّ العصور، طيفاً خالداً يراودُ قلوبَ شعراء متمردين ويثير خيالهم.
يازمانَ الوجعِ بالأندلس.
3
كنتُ من ضمن من أعتلوا ربوة الحبّ، وعادوا هبوطاً إلى السفح، محمّلين بخيباتهم. لكنّي لم أندمْ. لأن الندمَ لا يختلف عن قنينة نبيذ فارغة.
والحبُّ؟
” هذا الذي لستُ أعرفُ كيف أُداريه أو أحْتويه” قال عنه محمد الفقيه صالح، ذات يوم، مازالتْ ربوتُه، حسب علمي، تستقطب الراغبين، و أعداد العائدين إلى السفح محمّلين بخيباتهم في تزايد. لكن الناسَ هم الناسُ، لا يتوقفون أبداً عن المحاولة، مثل سيزيف وهو يحاول، كل مرّة، جاهداً دفع الصخرة إلى أعلى الجبل.
إنّه الحلمُ والأمل.
4
“أعطني الناي وغنّي فالغناء سرّ الوجود وأنينُ الناي يبقى بعد أن يَفنى الوجود.”
هكذا همسَ لنا جبران خليل جبران، وصدحت منشدة، بذلك الهمس، فيروز.
جبرانُ كان معلمي الأوّل. التقاني صبياً يافعاً، ذات يوم، على قارعة طريق، أفكُّ ألغازَ الحروف. ابتسم، وقال لي، إن أردت جُرعة من ماء النبع اتبعني، فتبعته. تذوقت العذوبة، ومنذ ذلك اليوم البعيد لازمتُ النبعَ . لذلك، ظلَّ جبران، رغم تقلب السنين، يحومُ متنقّلاً، في سماء أعماقي، كغيوم مكتظة بالتوق للانهمار.
وأنا؟!
أُمّي، حتى قبل أن يداهمها الخَرفْ، لا تعلمُ من أكون. وأخوتي لم يقفوا حائلاً بيني وبين ألم الفراق. لكنّي كبرتُ فجأة. و ظهري انحنى تحت عبء ثقل السنين. ولم يَعُد لي أسرارٌ أُسِرُّ بها إلى أصحاب غابوا، متفرّقين في أصقاع الأرض، وتركوا صدى ضحكاتهم في أرجائي. فأحترتُ: هل أعود إلى لغتي، واحتمي من جُور الزمان بجوار أُمّي، أم أكملُ ما كنتُ بدأتُ، في سنين مضت، من طريق، خائضاً في مسارب غُربة كحريق؟