منصة الصباح

وداعاً إمحمد

جمعة بوكليب

زايد…ناقص

أخيراً، حسبَ المتوقع، ووفق المعمول به من اجراءات بيروقراطية روتينية طويلة ومضجرة، جاءوا في صباح لندني ماطر، إلى مستشفى كنجزتون ابون ثيمز، في جنوب غرب لندن، في سيارة شحن صغيرة مخصصة للغرض.

لدى انتهاء اجراءات التسليم والاستلام، اخرجوا جثمانه من المشرحة  ظهراً، وحملوه في السيارة، ونقلوه إلى مكان آخر، حيث  غسّلوه ووضعوه في كفن، ثم غادروا به في نفس السيارة إلى مطار لندن- هيثرو، ومنها شحنوا الكفن، وطاروا به إلى مطار تونس قرطاج، وفي نفس المساء، وصلوا به إلى مطار معيتقية، ونُقل بسيارة إلى بيتهم في طرابلس.

كانت طرابلس تتوقع رجوعه السريع، وعلى استعداد لاستقباله. هذه المرّة، اختفت الابتسامة من وجهها، ومحلها تمدد حزن شفيف، ضبّب ضياء عينيها وغيمّ بهجتهما. مسكينة طرابلس، منذ أن أختطفها الحزن منذ زمن بعيد، لم يعد لها من عمل في الحياة سوى البكاء في مآتم من أحبوها وغادرونا.

لكن، أليس من حق  ابنها الغائب إمحمد الكشيك، لدى وصوله النهائي إليها، أن يستريح من عناء ووعثاء سفر طويل ومرهق؟ وأليس من حق صديقي القادم من غربته أن ينام، في المدينة التي أحبّها، قرير العين هانيها.

فلا تزعجوه.؟

ياالله، كيف لرحلة عمر بطوله وعرضه، وسنوات طويلة من مد وجزر، صعود وهبوط، فرح وحزن، أن تنتهي فجأة وسريعاً في يوم واحد؟ وكيف يمكن لحفرة في الأرض صغيرة أن تسع رجلاً مثله ملأ الدنيا ضحكاً وكرماً وتقوى وخيراً ومحبة وبهجة أينما سَارَ وحيثما حَلَّ؟

هناك في طرابلس، يرقدُ هانئاً مطمئناً صديقي ورفيقي إمحمد الكشيك في مضجعه الأول، وفي مرقده الأخير. هناك في طرابلس، المدينة التي أحببناها معاً، واغتربنا عنها معاً، وصل مركبُ صديقي ورفيق رحلتي في رُبعها الأخير، مرفأها الآمن ليلاً، وألقى مرساته للمرّة الأخيرة، وغادره متعباً من السفر، ومعلناً عن نهاية رحلة تطوافه في دنيا، جابها شرقاً وغرباً شمالاً وجنوباً.

هناك في طرابلس، المدينة التي فتحنا أعيننا على صحو سمائها، وهفيف جريد أشجارنخيلها، وأغصان أشجار زيتونها، وهدير موج بحرها، قال صديقي ورفيق رحلتي وداعاً للغربة، وضاع منّي، متسرّباً كماء من بين الأصابع. وبقيتُ أنا، وحيداً، أجوب بتعب وارهاق شوارع مدينة باردة وبعيدة، مضغت بأنيابها أطرى سنين عمرى، أعدُّ الساعات والدقائق والثواني، مُترقّباً ومتشوّقاً، في انتظار أن يحين موعد رحلة عودتي الأخيرة، على أمل أن ألحق بصديقي سريعاً وأستعيد رفقته، وأحظى، أخيراً، ببقعة من أرض صغيرة، مشمسة، في دفء جواره، في مقبرة  تقع على شاطيء بحرعشقناه معاً، كي نعيد ربط ما أنقطع من حبل رفقتنا، ونكمل معاً، ما بدأناه، ذات يوم في مسارب الغربة، من سَمَر وحكايات.

وداعاً إمحمد، وإلى لقاء يجمعنا قريباً، بين يديّ ربّ غفور ورحيم.

شاهد أيضاً

نَحْنُ شُطَّارٌ فِي اخْتِلَاقِ الأعْذَارِ

باختصار د.علي عاشور قبل أيام قليلة نجحنا نحن الليبيون في ما يزيد عن خمسين بلدية …