زايد …ناقص
أنا وجيراني
جمعة بوكليب
جيراني أناس طيبون. والطيبةُ، كما نعرف، احساسٌ بارتياحٍ نفسي، تطيبُ له الإقامة في القلب. راحةُ النفس سبب لراحة البال. وراحة البال تفشل كل أموال الدنيا في شرائها. ذلك الاحساسُ بالارتياح، لا يعني أن علاقة الجيرة الطويلة نسبياً بيننا، كانت سبباً في إزالة الحواجز، بأن صرنا أصدقاء نلتقي ونتزاور ونتبادل التهاني في الأعياد والمناسبات. لكنّها، على الأقل، لم تجعلنا متنافرين. بل حافظنا على قدر من الأحترام. وانشغلوا هم بأحوالهم، واشتغرقتُ أنا في شؤوني. وإذا صدف وألتقيتُ أحدهم في الطريق، أو أمام حديقة بيته الأمامية، أكتفي بتحيته بايماءة من رأسي، أو بتلويحة من يدي. فيرد هو أو هي بايماءة أو بتلويحة مماثلة.
في الفترة الأخيرة، وأقصد بذلك في السنوات التي أعقبت تقاعدي، ولزومي البيت لساعات طويلة من النهار، لاحظتُ أن جيراني الطيبين لاحظوا ذلك أيضاً، وقمعوا فضولهمً أدباً، الأمر الذي حال، مثلاً، بيني وبين ذرف دمعة أمام كل من قد يسألني منهم عن الأسباب وراء لزومي البيت، وعدم ذهابي إلى العمل كالسابق. ولابد أيضاً أنهم بشكل ما، وهذا استنتاج مني، ربطوا بين تزايد أعوجاج ظهري بشكل لافت، وبطء خطوي أثناء سيري، وأنهم وصلوا إلى استنتاج مفاده أنني قد لا أكون طُردتُ من العمل، والأرجح انني، بكل أدب معمول به في الدوائر البيروقراطية المؤسساتية، طُلبِ مني البقاء في بيتي، والاستمتاع بما تبقّى لي من أيام في عمري، تحت بند إداري معروف اسمه الاحالة على المعاش.
الاحالةُ على المعاش، تعني قطع العلاقة بين المرء وما كان يفعل من روتين يومي طيلة أربعين عاماً. كما تعني أيضاً أن عليه، حفاظاً على صحته العقلية، أن يدبر أحواله، بأن يبتدع روتيناً آخر، يكفل عدم وقوعه في ما ينصبه له المللُ والضجرُ من فخاخ يومية. أنا، مثل بقية خلق الله أمثالي من المتقاعدين الجدد، انتبهت للامر، وتمكنت، بعد فترة ومنية قصيرة، من بناء جدار صلد يقيني حضور الملل، بأن صرت أحرص على أن أشغل نفسي ووقتي في البيت، بما يعود على صحتي النفسية والبدنية بالخير. ولم يفت ذلك نباهة جيراني، وقرروا الاستفادة من لزومي البيت.
لاحظت بعد فترة من الزمن أن جيراني، من الجنسين، قد سبقوني إلى عالم التقنية بخطوات. وأنهم على تواصل مع مستجدات الواقع التقني اليومي، من خلال تبديل عاداتهم اليومية في التبضع. إذ بدلاً من الذهاب إلى الأسواق لشراء ما يحتاجون من سلع وبضائع، لجأوا إلى الانترنت، ووفروا على أنفسهم الوقت. فصاروا يطلبون ما يحتاجون، ويصلهم في نفس اليوم، أو الذي يليه من أيام. المشكلة أن التعامل مع العالم التقني في مسائل التبضع عبر الانترنت ترتبُ على المرء الانتظار في البيت، وفقاً لمواعيد مقررة مسبقاً لوصول البضائع وضمان استلامها. ولأن بعض تلك البضائع غالية الثمن، ومتميزة، لذلك يستحيل الخروج من البيوت، قبل وصولها واستلامها والتوقيع بالاستلام. لكن جيراني أحياناً لا يستطيعون الانتظار في البيوت لتضارب في المواعيد، أولأسباب أخرى. ولأنهم اكتشفوا لزومي البيت كل ساعات النهار، انتهزوا الفرصة المتاحة، وبداوا في تجربة حظوظهم معي، بطلب المساعدة، أي بالتطوع باستلام البضائع والتوقيع بالنيابة، ثم تسليمها إليهم فيما بعد. وبذلك، صار لي روتين يومي آخر، أقدم من خلاله خدمات مجانية تقوم على استلام وتوصيل بضائع جيراني! ذلك الروتين، بمرور الأيام صار عبئاً ثقيلاً، وكاد، في أحاييين كثيرة، أن يحوّل بيتي إلى مخزن لبضائع تخصّهم.