جمعة بوكليب
زايد…ناقص
هذة المرّة، قصداً، فعلتُ ما فعله الصديقُ المرحوم الشاعر محمد الفقيه صالح، في قصيدته المسماة “أيقونة”المنشورة في ديوانه الأخير.
كانتْ تمطرُ حين غادرتُ بيتي، في “وريستر بارك”،ظهيرة ذلك اليوم، قاصداً مطار لندن- هيثرو، في طريقي إلى تونس، ومنها إلى المحروسة طرابلس. رحلة طويلة ومملة تستغرق أكثر من 24 ساعة. المطر كان خريفياً خفيفاً، باعثاً على الآسى.
الآسى خريفٌ دائمٌ.
الخريفَ آسىً عابرٌ.
نحن أيضاً عابرون إلى ما لا نعرف، يغمرُنا آسى.
في مطار لندن – هيثرو، في الرصيف رقم 4، جلستُعلى مقعدٍ، وتخيّلت نفسي أيقونةً معلقةً على جدار. الرحلةُ إلى تونس، حسب الاعلان، في شاشة الرحلات المغادرة، تأخرتْ ساعةً أخرى. حركةُ المسافرين في ردهات المطار، على غير العادة، خفيفة. يبدو أن بدء العام الدراسي الجديد حالَ بين الناس والسفر. أنا تعمدتُالسفرَ في هذة الفترة الزمنية تفادياً للزحام وطمعاً في رخص أسعار تذاكر الرحلات. لكن المطاراتِ من دون زحام المسافرين وضجيجهم تفقدُ زخمها.
المطاراتُ محطاتٌ نقود إلى محطاتٍ أخرى. المحطاتُ مثل الزمن لا تنتهي، ونحن نعبرها، أكثر الأوقات، قلقين: لماذا؟لكل محطة طعمها ونكهتها. بعضها بنكهة مذاق تين في صباح جبلي ندي، وبعضها بنكهة حنظل. ثمة محطات نمرّ بها مثل أشباح، وننساها.
العمرُ محطاتٌ. الوطنُ محطاتٌ. الغربةُ محطاتٌ. المنفى محطاتٌ. الحبُّ محطاتٌ. ونحن ننتقل بينها: غُدواً ورواحاً.صعوداً وهبوطاً. فرحاً وحزناً. المحطة الأخيرة نصلهامتعبين مرهقين عادة. عندئذ، رغم التعب والإرهاق والإجهاد، نتمنّى لو كان بإمكاننا العودة إلى أول محطة.إلى أوّل حُبّ، أوّل قُبلة وأوّل سَفر.
جلسَ الشاعرُ على كرسي في ردهة مطار ما، وظهره للحائط، مثل أيقونة معلقة على جدار. وأنا، في جلستي تلك في المطار، ذلك المساء، تذكرته. وحاولت أن أكون مثله. وللأسف، لم يكن يمر أمامي، سوى نفر قليل من مسافرين تطفح وجوههم بتعب، وليس في ملامحهم ما يستحق الرصد والمتابعة، أو يثير في القلب شهوة الشِعر.
غابتْ الموسيقى: الأنوثة. تلاشى إيقاع الأقدام على أرضية الردهات الرخامية. لا حنينَ يشبُّ على مهل في القلب، متلهفاً إلى مغامرة حبّ جديدة، قبل وصوله آخر المحطات.
كانت تمطر مطراً خريفياً خفيفاً باعثاً على الآسى، حين غادرت بيتي ظهيرة ذلك اليوم. وفي لبنان، على بعد آلاف الأميال، في ذات الوقت، كانت السماء تمطر قنابل خارقة حارقة، من كافة الأحجام والأوزان، أميركية الصنع100%. وقنواتُ التلفزيون الدولية تنقل إلينا مباشرةصور الدمار والأنقاض والحرائق. الطائرات لا تبدو في الصور التلفزيونية المنقولة، لكن لهيب النيران الحارقة بألسنة لهبٍ حارقة كان كافياً.
بيروت تحترقُ. وقبلها احترقت غزّة وأضحتْ أنقاضاً،فأحترقت قلوبنا معها. وأنا جالسٌ على مقعد في ردهة مطار، وأتمنّى لو كنتُ، مثل صديقي الشاعر، أيقونة معلقة على جدار. في قلبي شوق إلى امرأة، وصلتْ قبليالمحطة الأخيرة، وتركتني وحيداً: لماذا إذاً تحمّل مشقةسفرِ طويلِ ومتعبِ، والعودة إلى بيتِ يخلو من ضحكتها؟
هذة المرّة، على غير العادة، سأدخل بيتنا في الظهرة،بقلبٍ مثقلٍ آسى.
سوف أجلسُ على كرسي في زاوية منه، وأرصد بشغف ظلالها، وأتابعها وهي تعدّ عجين الأرغفة، أو تُقطّع حبّات بصل إلى شرائح صغيرة، أو تجهّزُ حوضَ غسيل الملابس، وتُغنّي أغنيتها المفضلة: “مُولَى الجمل سُوق جِملكْ غَادي”، أو تذرفُ الدمع في صمت، لدى تذكر ولديها اللذين خطفتهما الغربة.