منصة الصباح

المكان الثالث

جمعة بوكليب

زايد…ناقص

كنتُ مستلقياً في فراشي، بين نوم ويقظة، والوقت تجاوز منتصف الليل. إلى جانبي الأيسر يوجد جهاز مذياع، على ” كومودينو” استمع إلى برنامج لم أعد أذكر اسمه. كانت سيدة تتكلم، عن رجل أعمال أميركي اسمه شولتز تقريباً، اشتهر بتأسيس سلسلة مقاه في أميركا. حين نطقت الوصف: ” المكان الثالث.” ظننتُ أنّها قالت “لرجل الثالث”، وهو اسم رواية كتبها الروائي الانجليزي “جراهام غرين” وحُوّلت إلى فيلم سينمائي من بطولة الممثلة الجميلة أورسن ويلز. لكني فظنت سريعاً إلى خطئي، وتبيّن لي أن المرأة كانت تقصد المقاهي. قالت المرأة إن شولتز كان يطلق عليها اسم ” المكان الثالث.” وأوضحت، أنه يرى أن البيت المكان الأول، والعمل المكان الثاني، والمقهى المكان الثالث.

صديقي المرحوم الشاعر الأردني أمجد ناصر، أصدر أول دواوينه في السبعينيات من القرن الماضي، وكان بعنوان:” مديحٌ لمقهى آخر.” كان ديوانا لافتاً للنظر. لكن أمجد انتقل إلى رحمة الله، وبقيت أنا بعده، أصحو وأنام في منطقة محايدة أقرب ما تكون إلى منزلة بين منزلتين. ارتاد متسكعاً الشوارع منتقلا من مقهى إلى مقهى، ومن مدينة إلى أخرى، ربما بحثاً عن مقهى يمكنني أن أوطد علاقتي به. لكن المقاهي تختلف، والأجواء تختلف، والرواد يختلفون. وأغلب رواد المقاهي يفضلون القعدة فيها على القعدة في بيوتهم أو في مكاتبهم.

لكلمة مقهى ذاكرة تحيلك وقتياً على مكان يشعُّ بالبهجة أو الراحة، أو الإثنين معاً. وبالطبع، ليس كل المقاهي تشعُّ بهجة. لكن مقهى الحاج أحمد حسونه، رحمه الله، الواقع قبالة مبنى الكاتدرائية في ميدان السيدة مريم، بشارع الاسبانيول، في المدينة القديمة- طرابلس، كان يستحق بجدارة لقب ” المكان الأول.” وكان الحاج رحمه الله أفضل من تحتسي من يديه فنجان قهوة. اللافت للنظر، ان الأجيال تتوارث الأمكنة في ذلك المقهى، أنا ورثت مكان أبي، وكذلك أغلب الشباب الآخرين. يتأخر جيل، ويتقدم آخر. والحاج أحمد رحمه الله صاحب الجميع. كان رواد المقهى يأتونه من مختلف مناطق المدينة القديمة. وكان الحاج أحمد رحمه الله رجلا عصبياً، من السهل جداً نرزفته. وهذا جعل منه صيداً سهلاً للشباب، وخاصة حين يكونوا مكسدين، مافيش كورة ولا بحر، وضايقة بهم الحظيرة.

لماذا أطلق شولتز على المقاهي وصف أو اسم المكان الثالث، وليس ألأول أو الثاني؟ أغلبنا يقضي أوقاتاً في المقاهي تفوق ما يقضيه في البيت أو العمل. ليس في ليبيا فقط، بل في أغلب عواصم العالم العربي. فالعرب والمقاهي تجمعهم علاقة قديمة ومزمنة، وربما لا يفوقهم شعب باستثناء الطليان.

أذكر أنني حين كنت صغيراً، كان في طرابلس إلى جانب المقاهي، دكاكين لصنع الشاهي، وخاصة في الأسواق، مثل الباب الجديد وسوق الثلاث. الدكاكين تلك لم يكن بها مناضد وكراس، بل مقاعد خشبية طويلة من دون مساند، في كل جهة من الجهات، يجلس زبائن في صف واحد طويل، مستندين بظهورهم إلى جدران عارية وأمامهم يجلس رجل يصنع الشاهي، أمامه الكوانين والسُفر والبراريد والطواسي واللقّمات. وحين يدخل زبون يطلب الطاسة الأولى، حمراء أو خضراء، وبعدها يحتسي الثانية، والثالثة إن أراد بالكاكاوية. ياعيني. لكن المقاهي قضت على دكاكين الشاهي، واستحوذت على المشهد. ولا أدري ماذا يفعل أصدقائي، اينما كانوا وحلوا، إذا أغلقت المقاهي أبوابها؟ وماذا أفعل أنا؟ وأين سيجد العديد من الكُتّاب والصحافيين وغيرهم بدائل للجلوس والراحة، وكتابة مقالاتهم؟

شاهد أيضاً

الثروة البحرية تؤكد التزامها بدعم جهود تنمية مصائد الأسماك

أكد وزارة الثروة البحرية التزامها الكامل بدعم جهود التنمية المستدامة لمصائد الأسماك وحماية مواردنا البحرية …