منصة الصباح

جائحة “كورونا”.. توازن قوى جديد.. فشل نموذج ومخاض لبديل

 

سليم يونس

إن محنة وباء كورونا بقدر ما كشفت نفاق وأنانية بعض الدول، فإنها بينت كم هي بائسة ورخيصة محاولات البعض التشفي، والترويج غير العلمي بأن المرض يخص منطقة معينة وشعوبا بعينها، وهم في منأى عنه… بل وتوجيه الاتهام بأن الصين هي وراء هذه الوباء، قبل أن يتحول هذا الفيروس إلى جائحة، هي أشبه بـ”الزلزال” الذي طال كل دول العالم، وكشف وربما ترسم نتائجه ملامح نظام دولي جديد.

الجائحة كشفت هشاشة النموذج

ويمكن لنا القول هنا، إن النتائج الكارثية التي طالت معظم دول العالم، جراء “زلزال” كورونا، ستكون له ارتداداته بالغة العمق والقوة على مستوي الخريطة الجيوسياسية العالمية، التي كانت قد رسمت معالمها هيمنة نظام القطب الواحد ونموذجه الاقتصادي الاجتماعي السياسي، ممثلا في “النيوليبرالية” بعد الانهيار الدراماتيكي للاتحاد السوفيتي ودول المعسكر الشرقي، في أشد تجلياته وحشية، مما جعل المفكر اليهودي الأمريكي نعوم تشومسكي يوصِّفه بـأنه” طاعون”.

وربما كان من محاسن جائحة فيروس كورونا، إذا كان للكوارث الكبرى من محاسن، هي أنها كشفت هشاشة النموذج الذي بشر به المفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما قبل أن ينقلب على أفكاره بعد ذلك، بـ”نهاية التاريخ” ومن ثم سيادة النموذج النيوليبرالي في تجلياته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، التي ظهَّرت الوقائع منذ تسعينات القرن الماضي توحشه ولا إنسانيته، وهو توحش ولاإنسانية مرتبطة ببنية هذا النظام القائم على المصالح الفردية الضيقة على حساب مصالح الآخرين ومقتضيات العدل والقانون، سواء كانت لمجموعات بشرية أو دول.

بل إن المفكر تشومسكي اعتبر أن ما يعيشه العالم الآن هي لحظة الحقيقية، لأن” الإنسان في هذا العالم، يعيش لحظة تاريخية حاسمة، ليس فقط بسبب فيروس كورونا، بل لأن الفيروس يحذرنا للوعي بالعيوب العميقة التي تواجهها البشرية”. وهذه العيوب كانت وما تزال تجليا موضوعيا للهيمنة الرأسمالية في أسوأ تمظهراتها وحشية، بالمعنى الاجتماعي والاقتصادي والإنساني، أي “النيوليبرالية”.

فشل النموذج

إن قراءة الأحداث في موضوعيتها وامتدادها وحالة الفوضى والفزع التي أحدثتها، تشير إلى أن ما قبل جائحة كورونا ليس كما قبلها، كونها شكلت متغيرا مفصليا في الواقع العالمي، سينتج عنه توازن قوى جديد، بسبب المتغيرات الهائلة التي أحدثها هذا الوباء في الفكر السياسي طال الكثير من دول العالم، وهو توازن أساسه كيف نجحت بعض الدول في احتوائه والانتصار عليه؟ فيما هناك دول بدت مرتبكة وغير كفؤة رغم الهالة التي كانت تحيط بها نفسها، وكل ذلك ضمن قانون التراكم  لطرفي المعادلة،  فالدول التي ظهَّر الوباء عجزها وعدم كفاءتها، وهربت نحو استحضار سياج الحماية والوطنية في مواجهة العولمة، سيكون التغيير على حسابها.

إن سلوك هروب هذه الدول التي سوقت لنموذجها الفكري والاجتماعي والاقتصادي الذي طالما “باهت” به على أنه “نهاية التاريخ” إلى نموذج ما قبل العولمة، يرى الكثير من الخبراء أنه قد يدشن لحقبة ما بعد النموذج النيوليبرالي الرأسمالي بخصائصه الاقتصادية والاجتماعية والفكرية الذي قادته أمريكا والغرب، ووصفه المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي بالطاعون،

بمعني آخر فإن جائحة كورونا بصدد إسقاط النموذج الذي قادته أمريكا والغرب، لذلك ترى نائبة المدير العام للمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، كوري شاك، أن عالم ما بعد فيروس كورونا لن يشهد استمرار زعامة الولايات المتحدة للعالم.

وقالت شاك في توقعاتها التي نشرتها فورين بوليسي، إن العالم لن ينظر إلى الولايات المتحدة بعد الآن كقائد دولي نظرا لسلوك الإدارة الأميركية الذي يقوم على تغليب المصالح الذاتية الضيقة وافتقار تلك الإدارة الفادح للكفاءة.

نحو حقبة جديدة

وفي مجال مقاربة مفاعيل زلزال كورونا ونتائجه الآنية والمستقبلية في المشهد الدولي هناك نسبة عالية من التقدير المشترك بين سياسيين ومفكرين في أن جائحة كورونا قد وضعت خاتمة لحقبة وفتحت المجال أمام حقبة جديدة، بعد أن أزال زلزال كورونا هالة القوة والتبجح عن الولايات المتحدة الأمريكية، بعد أن أثبتت الجائحة عجزها، وكشفت مكامن الضعف في بنيتها، بل إنها وضعت علامات استفهام مصيرية حول استمرار هيمنة هذا النموذج الأمريكي وامتداداته الخارجية، بما يمثله سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.

وهو من ثم فتح الباب أمام مشهد سياسي اقتصادي اجتماعي جديد، له قواه الموضوعية يعبر عنها، توازن قوى جديد، لم تظهر كل ملامحه بعد، ظهَّرته مفاعيل زلزال كورونا بكل الفوضى الاقتصادية والاجتماعية التي تركها في العالم، هذا التوازن يأتي ضمن تلك الصيرورة التي تشكل قوة الولادة على حساب الشيخوخة أو ربما هشاشة النظام النيوليبرالي الرأسمالي ولا إنسانيته.

ولذلك فإن موضوعية التغيير هي الرد الطبيعي على ما اعتبره وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر “الفوضى السياسية والاقتصادية الناجمة عن وباء الفيروس التاجي التي قد تستمر لأجيال”، واعتبر ” أنه خطر غير مسبوق في الحجم والعالمية”، بل وخلص الوزير الأمريكي إلى القول في مقال نشرة في  مجلة وصحيفة “وول ستريت جورنال”، إنه: “يجب أن لا نكافح فقط ضد الفيروس التاجي، بل يجب أيضا العمل بالفعل على إنشاء نظام عالمي لما بعد الفيروس”.

وصول وزير الخارجية الأمريكي الأسبق إلى قناعة بإنشاء نظام عالمي جديد، تعني فشل النموذج الذي قادته أمريكا منذ ما بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945 وطوال حقبة الحرب الباردة، ثم تفردها بالهيمنة على العالم منذ تسعينات القرن الماضي، بما يعنيه ذلك من نهاية الحقبة الأمريكية.

وهو ما جعل مستشارا لرئيس الوزراء البريطاني الأسبق جون ميجور، يكتب   في مقال له “مهمتنا عندما ستنتهي تلك الأزمة، أن ننضم إلى دول أخرى، ونؤسس هيكلا عالميا لا يعتمد فقط على الولايات المتحدة، وأن نبدي استعدادنا لتمويل ودعم هذا الكيان، وأن نقبل المسؤولية المشتركة، التي تركناها للولايات المتحدة فقط ولفترة طويلة، وإذا لم نفعل ذلك، فإن الخطر يتمثل في أننا لن نرى فقط نهاية الطغيان الأمريكي، ولكننا سنرى الطغيان نفسه”.

ووصل المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي  إلى نفس النتيجة لكن ضمن مقاربة أخرى ، بأن قال إنه عالم “معيب وليس قويًا بما فيه الكفاية للتخلص من الخصائص العميقة المختلة في النظام الاقتصادي والاجتماعي العالمي كله،  مؤكدا على ضرورة استبداله بنظام عالمي إنساني كي يكون هناك مستقبل للبشرية قابل للبقاء”.

حان دور الشرق

فيما يرى العالم ستيفن والت أستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفارد الأميركية، أن جائحة كورونا ستسهم في تقوية الدولة وتعزيز الوطنية، وأن الحكومات في مختلف أنحاء العالم ستتبنى إجراءات طارئة لإدارة الأزمة المتمثلة في تفشي الوباء، لكن العديد من تلك الحكومات لن ترغب في التخلي عن السلطات الجديدة عندما تنتهي الأزمة.

كما توقع أن يسرع انتشار الوباء وتيرة تحول السلطة والنفوذ من الغرب إلى الشرق، ويدلل على ذلك باستجابة دول شرقية لمواجهة المرض مثل كوريا الجنوبية وسنغافورة بشكل أفضل من الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية، كما أن تعاطي الصين مع الوباء كان جيدا بالرغم من تعثرها في البداية عند اكتشاف الفيروس.

وترى نائبة المدير العام للمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، كوري شاك، أن عالم ما بعد فيروس كورونا لن يشهد استمرار زعامة الولايات المتحدة للعالم.

وقالت شاك في توقعاتها التي نشرتها فورين بوليسي، إن العالم لن ينظر إلى الولايات المتحدة بعد الآن كقائد دولي نظرا لسلوك الإدارة الأميركية الذي يقوم على تغليب المصالح الذاتية الضيقة وافتقار تلك الإدارة الفادح للكفاءة.

ولعل السؤال الأساس هنا، هو أي دور سيكون للوطن العربي، فيما العالم يتجه نحو حقبة جديدة، وهو تغيير لن يكون بالطبع سهلا كونه مخاض ولادة، وربما ستحاول القوى القديمة، إما الدفاع عن نموذجها بكل الوسائل، أو التكيف الإيجابي مع هذا المتغير الموضوعي. لكن هل سيبقى الوطن العربي على الهامش، ويستمر في لعب دور التابع حتى لو تغير المتبوع؟ الأيام المقبلة ستنبئنا بالجواب.

شاهد أيضاً

التوتر واثاره الصحية

د.علي المبروك أبوقرين   في ظل الظروف التي تمر بها البلاد والمنطقة منذ أكثر من …