منصة الصباح
ثقافة النرجسية: تشريح أميركا في عصر الانهيار الداخلي

ثقافة النرجسية: تشريح أميركا في عصر الانهيار الداخلي

عبدالسلام الغرياني

صدر كتاب كريستوفر لاش “ثقافة النرجسية: الحياة الأمريكية في عصر التوقعات المتضائلة” عام 1979 كصرخة تحذير في قلب حقبة أمريكية مضطربة، تلت حروب فيتنام وفضائح ووترغيت وأزمات الطاقة.

حظي هذا العمل الذي حصد جائزة الكتاب الوطني عام 1980 باهتمام غير مسبوق، حتى أن الرئيس جيمي كارتر استلهمه في خطابه الشهير عن “أزمة الثقة” الذي ألقاه في نفس العام.

يرى لاش أن النرجسية تجاوزت كونها اضطراباً نفسياً فردياً لتصبح السمة الثقافية المهيمنة في المجتمع الأمريكي. لا يقصد بالنرجسية هنا مجرد الأنانية التقليدية، بل حالة من الهشاشة النفسية تجمع بين فراغ داخلي عميق وحاجة ماسة للاعتراف الخارجي. فالإنسان النرجسي – وفق التحليل الفرويدي الذي يتبناه لاش – يعيش في عالم مرآة، يحول فيه العلاقات الإنسانية إلى أدوات لتعزيز صورته الذاتية. هذه الظاهرة لم تكن وليدة الصدفة، بل نتاج تحولات بنيوية في الرأسمالية المتأخرة قطعت الأفراد عن جذورهم الأخلاقية والمجتمعية.

تتجذر هذه الثقافة في تحولات اقتصادية عميقة، حيث حلّت الشركات العملاقة محل الأسواق المحلية، وتحول العمل من الإنتاج الملموس إلى اقتصاد الخدمات الذي يركز على “إدارة الانطباعات” بدلاً من المهارات الحقيقية. وقد غذى الإعلام الاستهلاكي هذا التحول عبر خلق احتياجات وهمية حوّلت الحياة إلى سلسلة من العروض الاستهلاكية، ما عزز الفراغ الداخلي للأفراد. وفي مجال الأسرة، ينتقد لاش تدخل “صناعة الخبراء” – من أطباء نفسيين ومؤسسات دولة – في شؤون التربية، ما قوض السلطة الأبوية التقليدية.

ورغم تعاطفه مع أهداف التحرر النسائي، إلا أنه يرى أن انخراط النساء في العمل خارج المنزل ساهم – دون قصد – في إنتاج أجيال تعاني من انعدام الأمن العاطفي.

لقد شهدت المؤسسات العلاجية صعوداً مقلقاً حسب لاش، حيث حولت المشكلات الاجتماعية إلى أمراض نفسية فردية، مستبدلة المسؤولية الأخلاقية بالاعتماد على الحلول العلاجية السطحية. وفي الوقت نفسه، حوّل الإعلام الاستهلاكي الحياة إلى “مجتمع الاستعراض” الذي اختزل التجارب الإنسانية إلى صور جوفاء، وقد تنبأ لاش بأن انتشار الكاميرات سيجعل الحياة “غرفة صدى ضخمة”، وهي نبوءة تحققت بامتياز في عصر السيلفي ووسائل التواصل الاجتماعي.

تتجلى مظاهر هذه الثقافة في السياسة حيث يصبح القادة “ممثلين فارغين” يقدمون الصورة على الجوهر، كما في حالة نيكسون الذي “كرّس حياته لإبهار الجمهور بقدراته القيادية الزائفة”. أما الناخبون فيبحثون عن قادة يعكسون أوهامهم عن الكمال، ثم ينقلبون عليهم عند أول اختبار للواقع. وفي عالم الرياضة، تحول الأبطال إلى “فنانين استعراضيين” يسعون للربح المالي لا القيم الرياضية الأصيلة، ضمن ما يسميه لاش “التعاون العدائي”. بينما شهد التعليم انحداراً في المعايير الأكاديمية لصالح “التكيف مع الحياة”، مع توسع بيروقراطي حوّل الجامعات إلى مصانع لتخريج مستهلكين.

أما ظاهرة الخوف من الشيخوخة فتكشف عن أحد أعمق تجليات الأزمة، حيث أصبح التقدم في العمر مصدر رعب في ثقافة تُقدّس الشباب الأبدي، ما غذّى صناعات التجميل ومكافحة الشيخوخة.

ويربط لاش هذا برفض الموت وفقدان الإحساس بالاستمرارية التاريخية، مشيراً إلى أن “أزمة السبعينيات تتميز بتراجع الإحساس بالزمن التاريخي وانكماش الآفاق المستقبلية”.

واجه الكتاب انتقادات حادة من عدة جهات، حيث اتهمته النسويات بالحنين إلى البطريركية وتبسيط تأثير التحرر النسائي، بينما رأى الليبراليون في نقده نزعة تشاؤمية رجعية، خاصة في هجومه على مكاسب التقدم الاجتماعي.

كما انتقد الأكاديميون اعتماده المفرط على التحليل النفسي الفرويدي باستخدام مصطلحات مثيرة للجدل مثل “الأم المخصية”، وإصراره على تعميم تشخيصاته لتصبح أمراضاً مجتمعية شاملة.

رغم صدوره قبل عصر الإنترنت بأربعة عقود، يحتفظ الكتاب بقوة تنبؤية مذهلة. فوسائل التواصل الاجتماعي أصبحت “غرف صدى” مثالية تعكس هوس النرجسي بالصورة والاعتراف، وتعزز انفصاله عن الواقع. وفي السياسة، تُدار القرارات المصيرية بناءً على “المصداقية الإعلامية” لا الوقائع الموضوعية، تماماً كما حدث في إدارة حرب فيتنام. وتؤكد الدراسات النفسية المعاصرة هذا التشخيص، حيث تُظهر ارتفاعاً مطرداً في السمات النرجسية بين الشباب منذ منتصف السبعينيات.

يظل إرث الكتاب مثيراً للجدل رغم تأثيره الواسع، إذ أساءت بعض التيارات فهم رسالته الأساسية. فبينما رأى اليمين المحافظ فيه هجوماً على ثقافة الستينيات “المتساهلة”، اختزله اليسار إلى نقد للرأسمالية فحسب. لكن لاش أوضح لاحقاً في كتابه “الذات الدنيا” (1984) أنه كان ينتقد مساراً تاريخياً بدأ في القرن التاسع عشر، تحولت فيه الرأسمالية من نظام إنتاجي إلى ثقافة استهلاكية تفككت فيها الروابط المجتمعية.

يبقى “ثقافة النرجسية” مرجعاً أساسياً لفهم تناقضات الحداثة المتأخرة، حيث يحذرنا من خطر الاغتراب في عالم يُختزل فيه الإنسان إلى مجرد صورة أو بيانات رقمية. إنه ليس نداءً رجعياً، بل دعوة لإعادة بناء سلطة أخلاقية خارج نطاق السوق، واستعادة الإحساس بالمسؤولية التاريخية. كما يختصر لاش المأساة بقوله: “النرجسية ليست مجرد حب الذات، بل هي استحالة حب الذات في عالم يفرغها من مضمونها الإنساني”. هذا التشخيص المرير ما يزال يتردد صداه في كل زاوية من زوايا حياتنا المعاصرة.

شاهد أيضاً

ضبط عصابة خطف بجنزور أثناء تسلّمها فدية مقابل إطلاق رهينة

ضبط عصابة خطف بجنزور أثناء تسلّمها فدية مقابل إطلاق رهينة

تمكن أعضاء مكتب التحري بمركز شرطة شهداء عبد الجليل، وبالتعاون المباشر مع أسرة أحد المختطفين، …