د. علي عاشور
باختصار
لا أحد يستطيع إنكار الدور الكبير الذي تؤديه المناسبات التي تسمى بالمؤتمرات والملتقيات والندوات… إنها ليست مجرد تجمعات بشرية لمناقشة القضايا العلمية والمجتمعية، بل هي فرصة ذهبية لاستعراض البدل الرسمية، وتبادل الابتسامات أمام الكاميرات، والتقاط الصور التذكارية، وعبارة تضاف للسيرة الذاتية لبعض المشاركين والمتحدثين.
الجميع في هذه المناسبات الأنيقة، سواء كانوا من أهل الاختصاص أو من الضيوف أو حتى الدخلاء، يلتقون ويتصافحون، يناقشون ويتجادلون، يطرحون أفكاراً ويسردون تجارب، ثم يصيغون توصيات تفوق في جودة صياغتها أي وثيقة دولية… ولكن ماذا بعد؟ ثم يغادر الجميع وينامون وهم مطمئنون بأن هذه التوصيات سيتم حفظها في مكانها الطبيعي… الرفوف المغبرة، فهي كلام معسول لكن التنفيذ معلول.
تخيلوا معي الرحلة العجيبة لهذه التوصيات، تبدأ حياتها في قاعات الفنادق الفاخرة، حيث يجلس المجتمعون على مقاعد مريحة وطاولات أنيقة، يستمعون لخطب بليغة، بعضهم يصفق بحماسة، والبعض الآخر مشغول بتفقد هاتفه باحثاً عن دعوة جديدة لحضور مؤتمر أو ملتقى آخر، وتمر ساعات من النقاشات الجادة، تتخللها فقرات تسكب فيها القهوة أكثر مما يسكب من الحلول، ثم يأتي الوقت الحاسم: صياغة التوصيات، حيث تكتب بأبهى العبارات، وتراجع لغوياً لكي لا يكون فيها خطأ نحوي قد لا تستسيغه آذان النخبة المثقفة، ثم تطبع في تقارير جذابة ترسل وتوزع على المسؤولين بالجهات ذات العلاقة، وكأن المشكلة قد حُلت بمجرد وصولها لهم.
وبالطبع لا تكتمل هذه الطقوس إلا بالتزاحم على المقابلات التلفزيونية، حيث يتسابق المشاركون، وقبلهم المسؤولون، للظهور الإعلامي، والإدلاء بتصريحات نارية عن أهمية المؤتمر وضرورة تنفيذ التوصيات، رغم أنهم يدركون جيداً أن مصيرها الأدراج المغلقة.
أما المسؤولون الكبار، فلا يحضرون إلا الجلسة الافتتاحية، حيث تتركز الأضواء، وتنتشر الكاميرات، أما الجلسة الختامية التي تتلى فيها التوصيات، فلا تحظى بأي اهتمام منهم، لأن وسائل الإعلام تكون قد غادرت منذ اليوم الأول، تماما كما يغادرون هم بعد انتهاء فقرتيالتصفيق والتصوير، حتى أن منهم من يقوم بتوزيع الدروع على كبار الضيوف في الجلسة الافتتاحية لا الختامية.
لكن أين تذهب هذه التوصيات بعد الانتهاء من موجات التصفيق لمن يتلوها في نهاية المؤتمر؟ البعض منها يتم ركنه على مكاتب المسؤولين الذين يكتفون بقراءتها كتسلية خفيفة أثناء الدوام، والبعض الآخر يجد طريقه إلى الأرشيف دون أي مبالاة، حيث تعامل معاملة الوثائق التاريخية، أما التوصيات الأكثر طموحاً، فتتحول إلى مواد دسمة للندوة القادمة، حيث سيتم تكرارها بنفس الحماسة، كأنها اكتشاف جديد.
وحتى يضمن القائمون على المؤتمر استمرار هذه المسرحية العبثية، لا بد أن تتضمن التوصيات توصيةاستراتيجية تقضي بضرورة عقد نسخة ثانية وثالثة من المؤتمر نفسه، ويا حبذا لو تنظم في أماكن ومدن مختلفة، فمن يدري؟ ربما يتغير حال التوصيات عندما تكتب في فنادق مدينة أخرى.
المفارقة الكبرى أن هذه المؤتمرات، رغم عدم جدواها الفعلية، لا تتوقف أبداً، بل تزداد زخماً، وتتعدد مواضيعها، وتتضخم ميزانياتها، وتُحجز لها الفنادق مسبقاً لسنوات قادمة. السؤال هنا: لماذا هذا الاستمرارالفارغ ما دام إنتاج التوصيات أهم من تنفيذها؟ وكأن التوصيات مجرد طقوس احتفالية لا تختلف كثيراً عن إطلاق الحمام الأبيض في المهرجانات، رمزية جميلة بلا أثر يذكر…