المدن الهشه
————–
منصور بوشناف
لو نظرت الى طرابلس الأن “وهي مدينة ليبيا ألأهم” لوجدتها معبرا لطرق القوافل منذ “الجرمنت” وحتى الآن , طرق يحرسها بدو وفلاحون استقروا على اطرافها في البداية لتتحول تلك الاطراف الى أحيائها الكبرى التي تغص بالجنود والعمال والموظفين والبوليس وكلهم يعملون بالدولة كحراس ومشغلين لدواليبها , يسكنون منذ اكثر من قرنين من عمر هذه المدينة السيئة الحظ على مر العصور , على اطرافها .
سكان اطراف طرابلس التي صارت هي طرابلس الكبرى تنتظم خارطة سكناهم الطرابلسية شرقا وغربا وجنوبا , كما كانت منذ أكثر من ألفي سنة على الاقل , حين كانت القوافل القادمة من الشرق او الغرب او الجنوب تعسكر خارج المدينة قبل ان يؤذن لها بالدخول , فكانت القوافل القادمة من الغرب تعسكر غرب المدينة والقادمة من شرقها وجنوبها تعسكر كل في طرف المدينة الذي وصل اليه .
عبر عقود كثيرة تحولت “محطات ماقبل الدخول” الى مراكز خدمات ثم الى أحياء وقرى يسكنها قادمون مع القوافل من كل ارجاء الصحراء الليبية الشاسعة , فظل سكان جنوب طرابلس مثلا الى الان من اولئك القادمين من الوسط والجنوب وكذا سكان شرقها وغربها من الشرق والغرب.
كانت الفترة التركية ثم الايطالية الأفضل في تاريخ طرابلس في ادماج هؤلاء الهاجين اليها وادماجهم في مجتمع مديني لا يهتم بالاصل او القبيلة , فكان اهل طرابلس المدينة “حضريين” مستقرين تربطهم روابط المدينة الاجتماعية والثقافية الخاصة بالمدن , كانت طرابلس المدينة ورغم اطرافها صلبة ومتماسكة كمدينة لها ثقافتها وفنونها وعاداتها وتقاليدها وقادرة على دمج اي من عابري بواباتها المدينية .
مع تأسيس الدولة الليبية الحديثة وبالتحديد مع تفجر النفط كان التوطين والتعليم اهم اولويات الدولة الليبية الحديثة واحدث كل ذلك نقلة مهمة في حياة سكان ضواحي المدينة وجعلهم يندمجون بشكل افضل ولكنه ايضا جعل المدينة تتعرض لما يشبه السيولة في تركيبتها السكانية والثقافية لتصب في مجراها روافد جديدة مصدرها البادية والريف ورغم كل الانتقادات لهذا فأن هذا التوطين ورغم الهشاشة التي اصابتها اثر ذلك فأنه جعلها تنفتح على اطرافها وضواحيها وتتحول الى مدينة لكل الليبيين .
منذ نهايات الحرب العالمية الثانية بدأت موجات التحرر تصل الى اطراف المركز الاوروبي ومستعمراته وكانت مدن تلك المستعمرات “الهشة” تعاني نظرة سكان اريافها وبدوها لها كمركز للمستعمر , فكان شعار غالبية تلك الثورات وحركات التحرر “زحف الريف على المدينة” و”سيطرة الضواحي على المراكز التي اسسها المستعمر , تلك الشعارات وصلت ليبيا وتبناها نخبة المثقفين القوميين واليساريين وحتى الاسلاميين الذين انتجهم “تعليم وثقافة الاستقلال” ليزيد كل ذلك في هشاشة المدينة في ليبيا وطرابلس بالتحديد .
سبتمبر وحركة الضباط الاحرار وصلت الى السلطة تحت تلك الشعارات وشرعت مباشرة في تنفيدها عبر قوانين ثورية جذرية “اسلامية متشددة ” في بداياتها وصلت الى احراق الكتب واغلاق دور السينما وحرق الالات الموسيقية الغربية , لتنهار المدينة تماما وتسود ثقافة الارياف والبادية .
كان على المدينة الهشة المغلوبة في تلك الاجواء ان تتحول الى مقلد ثم الى مستلب في تلك الثقافة بدل ان يحدث العكس كما كان , وتذوب مكوناتها في هذا الطوفان , ليشرع سكانها المدنيون في التفتيش عن جذور اسلافهم الريفية او البدوية ليعودوا اليها , كل ذلك تم بالشرعية الثورية والاجتماعية فتشكلت في طرابلس روابط للقبائل والارياف القادمة اليها في كل احيائها .
طرابلس نموذج كبير لكل مايمكن تسميته بالمدن الليبية , ظلت هشة وغير قادرة على الادماج والتأثير بعمق في القادمين اليها , بل وبقوة النفط والسلاح ظلت تزداد هشاشة كل يوم , وتستلب وتذوب في القادمين اليها بثقافتهم القبلية والريفية .