منصة الصباح

عن الإبداع والمبدعين

عن الإبداع والمبدعين

محمود السوكني

الإبداع هبة ربانية لا ترتبط بسن محددة ، و لا تنتهي في عمر معلوم ، و لا يوقف تدفقه سوى الموت أو التلف العقلي و إن كان البعض يشترط في المبدعين ذهاب العقل أو شطط الخيال ، لكثرة شطحاتهم و إتيانهم أفعالاً قد لا تكون مقبولة لدى الآخرين الذين يصفون تصرفاتهم باللا معقول ، وتلك ربما تكون سمة المبدعين أو بعضاً من شخصياتهم .

و الإبداع لا يتوقف على صنف محدد من النشاط الإنساني ، فكل من تفوق في مجاله ، وبزّ نظراءه ، و أتی بالمعجزات في إنتاجه ، مبدع لاشك .

فالموسيقي الذي وضع الجمل الموسيقية الخالدة ، أطربت سامعيها و تناقلتها الأجيال بغبطة و سعادة هو مبدع خلّدته النوت الموسيقية التي فجّرتها إمكانياته اللحنية ، و المطرب الذي حلق بنا في سماء البهجة بصوته الشجي ، مبدع نحفظ أعماله و نرددها بنشوة غامرة ، كما أن المهندس الذي أعد الخرائط وابتكر الرسومات التي شُيّدت على تصاميمها المباني البديعة والقصور الفاخرة ، لاشك مبدع تسرُّ أعماله الناظرين .

و هكذا بقية الإفرازات الخلاقة للنشاط الإنساني ، كلٌ يعكس إبداعاً متميزاً في مجاله لا يجوز نكرانه أو تجاهله أو التقليل من شأنه , و إن اختلفت مشاعرنا تجاه أصحابه كُرهاً أو حباً لسبب من الأسباب ، لكن الاحتفاء بما يقدمونه من إبداع متميز يظل قائماً لا تشوبه شائبة ، كما أن تقدم أعمار نجومه ، لا يحول دون استمرارهم في هذا العطاء حتى و إن خالف ذلك اللوائح الجامدة ، والنظم البيروقراطية التي تحدد عمر المنتج و تحيله إلى دكة التقاعد أسوة بغيره من عامة البشر !

في تقديري إن سن التقاعد التي تلزمنا بها التشريعات النافذة ، لا يجب أن تنطبق على الجميع بالتساوي ، فهناك فرق شاسع بين من يقدم خدمة إدارية محدودة تعتمد على عمر افتراضي أو جهد عضلي مرهون بزمنه ، و بين من يعطي عصارة موهبته الفذة و يترجمها إلى نتاج إبداعي مبهر لا يتوقف مع خريف العمر بل ربما يزداد وهجاً ، و يشتعل اتقاداً مع طول الزمن .

و يحضرني إجراء إداري فج كان يقضي بإحالة الشاعر الكبير “محمد الفيتوري” إلى التقاعد من السلك الدبلوماسي ، تم نقضه و الغاؤه و الإبقاء على الشاعر الكبير و التمديد له مدى العمر بفضل تدخل شخصي من جهة نافذة .

حري بنا أن نحتفي بالمبدعين لا أن نقتل مواهبهم و نحجر على تدفق إنتاجهم بإجراءات عقيمة ، لا يضيرنا أن نجمد بنودها تجاه مبدعين قلة ، يصدق فيهم قول الشاعر الكبير (و هل يستوي البشر الأفذاذ ، و البشر ؟) هذه تحية أسوقها لكل النوابغ الذين يعيشون من أجل إسعادنا ونفتقدهم -فقط- عند الرحيل .

شاهد أيضاً

زيادة الوزن وطريق الموت

مع شاهي العصر: توجد دولة في جنوب أمريكا اسمها بوليڤيا بها شارع يعد أخطر شارع …