منصة الصباح

القلوب مخازن

زايد..ناقص

جمعة بوكليب

“القلوب مخازن” هذا ما يؤكده مثل شعبي قديم، ربما يقترب من عمر سيدنا نوح عليه السلام. فما تراه العينان، وما تسمعه الأذنان، يتحول، بآلية وتلقائية، إلى مستودع القلب، ويظل هناك إلى وقت غير معلوم، يطول أو يقصر.  قد لا أستطيع تحديد الفترة العُمرية، التي سمعتُ فيها أمي، لأول مرة، تردد أمامي ذلك المثل. لكن بإمكاني تذكر اللخبطة التي أدخل عقلي فيها، والحيرة التي تلبستني، وأنا أرى أسئلة عديدة تنبثق في داخلي بلا توقف لدى سماعه.  المثل كاملا يقول :” العين تنظر بالنظر وتوازن، والوذن تســـــــــــــمع، والقلوب مخازن.” لكن من كامل المثل لم يستوقفني سوى تعبير ” القلوب مخازن”، وجعلني أفكر في معناه: كيف يمكن لقلب آدمي أن يكون مخزناً؟  صرت أتخيّل القلوب البشرية على شكل المخازن، التي رأيتها وعرفتها في الأسواق، مليئة بالسلع وبالبضائع. لكن سرعان ما تبيّن لي استحالة التشابه بين الاثنين، لكبر حجم المخازن وسعتها وما تحتويه، ولصغر حجم القلوب. الفضول ذاته دفعني لتخيّل الكيفية التي من الممكن أن تتشكل بها مخازن القلوب إن وجدت أصلاً، ونوعية ما يمكن أن تحتويه من سلع وبضائع.

توقعتُ أن مخازن القلوب، قد تكون بسبب صغر حجمها، أقرب شبهاً منها إلى “الخزانة” التي تقع تحت السدّة في دارنا، من تلك  المخازن التجارية التي تتواجد في الأسواق. فالخزانة صغيرة الحجم، وواطئة ومظلمة. وكثيراً ما كانت مأوى للفئران. ودائماً مليئة بقدور وطناجر وزوائد كثيرة.  ولا تدخلها إلا أمي، لتخزين ماعون، أو أحضار آخر. لكن مشكلة تواجد الفئران بالخزانة جعلتني أنفر من ذلك التشبيه، وأتخلى عن الفكرة بطيب خاطر، وأسعى، من جديد، لتخيّل أشياء أخرى قد تكون أكثر مناسبة لما يمكن أن تكون عليه أشكال مخازن  في قلوب آدمية، وما يمكن أن تستوعبه من سلع ومحتويات.  خيالي، بشطحاته الهائلة آنذاك، قصر وعجز عن الوصول إلى صورة ممكنة ترضي فضولي وتريح عقلي. ورغم ذلك وباصرار عجيب،  لم أرفع راية الاستسلام، وظللت مشغولاً بالأمر. بعد فترة قصيرة توصلت إلى ما يشبه قناعة، بأن مخازن القلوب الأدمية قد تكون  على شكل كهوف في جبال، مثل تلك الكهوف التي كنت أراها في افلام القراصنة، والكاوبوي الامريكية.  كهوف في مناطق قصيّة، يصعب الوصول إليها،  بحجرات عديدة، غير متساوية في الحجم. بعضها صغير بسقف واطيء وأخرى واسعة وعالية السقف. الحجرات في الكهوف مظلمة، كما  هو حال خزانة السدّة في دارنا. بمرور السنين، وكثرة التجارب والخبرة، صرت على علم بمعنى المثل، بل وأردده متى أتيحت لي الفرص أمام أصدقائي ومعارفي، وأحياناً، أردده لنفسي. لكن، وهذا المهم، أن خيالي الطفولي الذي صوّر لي  مخازن القلوب على شكل كهوف لم يجانب الصواب، بل تأكد، وتعزز أكثر تصوره. وصرت أدرك أنني، مثل غيري من البشر، أحمل بين أضلعي كهفاً شخصيا، مصنوعاً من عضل وأنسجة وشرايين وأوردة، ومخصصا لتخزين ما أودعه فيه من بضائع وسلع، من نوعيات عديدة مختلفة، وبصلاحيات استخدام طويلة وقصيرة زمنياً، وقد لا تصاب بالعطب والتلف، لكنها من الممكن، إن لم أكن  حذراً ومنتبهاً، أن تصيبني بهما، وتحيلني بضاعة تالفة شعورياً وانسانياً. وتعلمت، بعد تجارب عديدة وغير مُسرّة، أن أكون حريصاً على ما أستودعه في كهفي من أشياء وحوادث، وما أخزّنه من مشاعر وردود أفعال تجاهها، لأن الحرص، مثل الوقاية، لايكلف شيئاً، والاهمال باهظ الثمن. المشكلة أنني بسبب ما فعله بي الزمن، صرت كثير النسيان، وبالتالي، قليل الحرص.

شاهد أيضاً

(عن ايام الطباعة نار ورصاص واورام )

زكريا العنقودي انا ولد مطبعة وكبرت من عمري 15 العام بين الحبر والاوراق ، وللعلم …