بقلم / سليم يونس
ربما لن يختلف اثنان على توصيف أن الأزمات الاجتماعية والسياسية والأمنية التي تُلقي بظلالها على أي مجتمع من المجتمعات، كتلك الفوضى التي تضرب في أكثر من بلد عربي، على أنها حالة من الظلمة بالغة الحلكة أنتجتها حالة العناد السياسي، وهي ظلمة، للأسف لا تتيح مجالا للرؤية الموضوعية والتقدير الصائب للموقف؛ طالما لم يحسن من يعيشون واقعها والفاعلين فيها كيفية التعامل معها؛ عبر نضج فكري وسياسي ومجتمعي وحس إنساني بالآخر المختلَف معه، ضمن جغرافيا الوطن.
والتجربة تقول إن هذه الأزمات بما تجلبه من فوضى؛ تصبح ككرة الثلج التي تكبر كلما تباعدت لغة الحوار المسؤول، وتُرك الباب مفتوحا لكي يحل العناد محل الحوار بين القوى السياسية، وهذا أمر ربما يشجع البعض على استثمار ذلك لمصالحه؛ لأنه يرى أنها مشروعه، دون أن يمنح نفسه فرصة اكتشاف أين يقف هو نفسه في المشهد؟ وأنه بالتأكيد ليس الفاعل الوحيد في الواقع الموضوعي، وأن هناك مصالح لقوى وجماعات أخرى لا يمكن تجاهلها.
لكن السؤال هل جرى استيعاب ذلك الواقع بمكوناته وديناميكياته وتعقيداته وربما هشاشه، وشبق وتسرع البعض لاختطاف السلطة؟ الواقع يقول لا، لأن النتائج كانت طوال الأعوام الماضية وما تزال حتى الآن مخيبة للآمال بالنسبة للشعوب العربية المعنية، وهي التي راهنت على تغيير ثوري بالمعني التقدمي الإنساني، الذي يحقق لها حريتها وكرامتها وحقها في المواطنة وفق المفهوم الذي كانت قد رسخته قيم الديمقراطية لدى الكثير من شعوب العالم.
كانت تلك الشعوب تريد دولة ومؤسسات واحدة موحدة تحفظ كيان الدولة وتؤمنها في وجه المتربصين بها من الداخل والخارج، لذلك شكل غياب الدولة أحد تجليات الواقع المجافي لما بعد حراك عام 2011؛ كون القوى التي أفرزها التغيير لم تتمكن من بناء الدولة المنشودة كسلطة وحيدة جامعة.
وإنه لمن الطبيعي والحال هذه؛ أن يكون لتراجع حضور وبناء الدولة الديمقراطية كمحتكر وحيد للسلطة من قبل حراك عام 2011، أن باتت الدولة إما غائبة كليا أو جزئيا، بفعل التداعيات غير المحسوبة لذلك الحراك الذي كان الأمل يراود جميع الشعوب المنتفضة، أن يحقق لها انتقالا آمنا ومضمونا نحو المستقبل، بأن يشكل لها قطعا مع كل ما هو ظالم وغير ديمقراطي وإنساني؛ كانت قد تجرعته تلك الشعوب خلال العقود الماضية.
وبدلا من أن تمسك تلك الشعوب بالمستقبل وهو حق طبيعي مشروع لها، بعد أن كانت قد حرمت منه؛ بفعل كوابح نظم الاستبداد والاستغلال وغياب الحرية والديمقراطية، فإن الواقع يقول بأن بوصلة العديد من تلك الدول مع توفر حسن النوايا، حادت عن اتجاهها، وبدا لأغلبية تلك الشعوب؛ وكأن حلم المستقبل يبتعد تدريجيا كلما تفاقمت الفوضى والعناد السياسي الذي يتكئ على وهم امتلاك الحق والصواب المطلق في مواجهة الخطأ المطلق، بين الأطراف التي تشكل وتدير المشهد الراهن في تلك الدول.
وهي للأسف مقاربة لا يمكن تصورها في عالم السياسة بين الدول والشعوب، ناهيك عن مفردات قوى الشعب الواحد، لذلك كان أكثر المتضررين من هذا الواقع؛ كان النسيج الاجتماعي في تلك الدول، كون حالة الانقسام هذه؛ وبكل تجلياتها السياسية أو المجتمعية وحتى الجغرافية، لعبت دورا مركزيا في تضرر هذا النسيج من خلال استمرار هذا التطاحن؛ الذي بلغ ذروته في بعض تلك الدول في السنوات الأخيرة، وهو ما نلمسه في العديد من الدول التي تعيش مثل هذه الحالة من الانقسام الحاد والعنيف.
والخشية أن تصبح هذه الحالة من الفوضى في بعض الدول العربية، واقعا مستمرا حتى إشعاراً آخر، مما يفتح الباب أمام سايكس ـ بيكو جديد ولكن هذه المرة بأيديها أبنائها، إذا لم تتمكن القوى المعنية من وعي ما يجري ومخاطره المدمرة على وجود تلك الدول في ذاتها، وتجاوز حالة العناد السياسي بين هذه الأطراف الفاعلة والتقاط اللحظة السياسية، وإعادة التوازن إلى تلك الدول بجهد الجميع قبل أن تفلت منها تلك اللحظة إلى غير رجعة، هذا إذا ما عرفنا أن العناد السياسي عادة ما يورث ما لا تحمد عقباه كما تقول لنا تجربة الحياة الإنسانية.
وأستطيع التقدير أن هذا العناد من شأنه أن يكون حاجبا لصفاء العقل والتفكير، وهو الذي يقف وراء أن يصبح الواقع المعاش بهذه الكيفية من التعقيد وربما حتى (الفنتازيا) بالنسبة للبعض؛ ومن لّم لا نستطيع أن نبرئه ـــــ أي العناد ــــــ من أنه هو من أوصل تلك الدول إلى ما تعيشه الآن، من انفجار للصراع الداخلي، لكن في الوقت نفسه إنه لمن السذاجة في القراءة إغفال أن هناك عوامل كامنة محرضة سياسية وفكرية واقتصادية واجتماعية داخلية كانت الحاضنة لهذه الفوضى، وكانت وراء إنتاج هذا الواقع، فهو لم يأت من العدم، وإنما له أسبابه الذاتية والموضوعية التي حددت سيرورته تلك القراءات المتباينة للواقع ولجملة المشكلات التي تعاني منها تلك الدول وكيفية حلها؛ بسبب عقود من احتجاز التطور في كل المجالات.
ونعتقد أنه بسبب الحماس غير المحسوب بدقة، لم يجرِ التعامل مع حالة الانتقال لتلك الدول نحو المستقبل بنزاهة وشفافية، فكان أن حضرت الحسابات الخاصة بكل أنواعها، الأمر الذي ساهم في ازدياد عوامل الفرقة على الوحدة، لذلك بدا المشهد بالغ القتامة والحلكة، وزاد في الوقت نفسه من حالة الشك لدى الشعوب بشرائحها الاجتماعية المختلفة، في أن هناك خطأ ما ارتكب، فيما السؤال الحارق حول ما الذي يجري؛ يكاد يصم الآذان؟!! في وقت يستمر جميع الفاعلين في تبادل الاتهامات حول السبب في الوصول إلى هذه الحالة من الفوضى، وكأن هذا الواقع نبت شيطاني، هكذا اقتحم حياة تلك الشعوب دون فاعل، في حين أن نخبها تتحمل المسؤولية لأنها لم تنتبه للمخاطر التي تهدد أمنها، كون قراءتها للوقائع كانت أحادية وقاصرة، ولذلك كانت نتيجتها أنها تعيش الآن وقائع هذه الدائرة الجهنمية من العنف والشك المتبادل، وهي ثنائية مفادها أنه كلما ازدادت السدود بين أبناء الوطن الواحد وبرزت الشكوك وعدم الثقة، ابتعدوا عن الحل الذي كان من المحتم أن يحتوي الجميع على أساس المواطنة.
والنتيجة أن فئة واسعة من تلك الشعوب، وجدت نفسها في حالة من التشاؤم وعدم اليقين النفسي والسياسي، وازدادت خشيتها من تبدد حلم المستقبل، وعوضا عن القبض على المستقبل، تنفتح الأبواب على تخوم التناقض في أشكاله العنفية المختلفة، الذي أصبح للأسف واقعا معاشا للأسف.
وأجرؤ على القول أن ما يجري في بعض جوانبه هو نوع العناد السلبي الضار، الذي يفتح الباب كي يحل التباغض ُمحل التسامح وتقبُّل الآخر بعيدا عن الأحكام المسبقة باستثناء مظلة الدستور والقانون، ذلك أنه في غيبة الحكمة تحضر الاتهامات المتبادلة بدلا من النقاش والحوار، ولكن على قاعدة أن الكل حريص على الوطن، وإن اختلفت الأفكار وزوايا الرؤية، طالما أنها كانت ضمن منظومة القيم التي يقر بها الجميع كإطار ناظم للحياة في تلك الدول.
والخشية أن تساهم هذه الأوضاع التي بات بعضها تناحريا متفجرا، في ازدياد جرعة العناد، لدى البعض ارتباطا المتبادل بمعناه السلبي في القوى المتنازعة أو المتحاربة، وفي تقديري أن هذا الشكل من العناد هو عامل مدمر في منظومة التفكير كونه يتكئ في أحد جوانبه على ثنائية النفي (المتبادل) من جانب، ووهم امتلاك كل الأطراف لليقين من جانب آخر، وهذا يعني في الجوهر، أن على الجميع عدم تجاهل شرط الحقوق المتساوية مهما كان الاختلاف بينهم، وأنهم موضوعيا جزء من الواقع لا يمكن للرغبات الذاتية مهما كانت أن تنفيه، وهذا من شأنه إذا ما تفاقم أن يمثل وصفة لنسف مبدأ التعايش المتساوي بين جميع مكونات المجتمع مهما اختلفت أيديولوجياتهم وإثنياتهم ومذاهبهم ومناطقهم، والمعني هنا هي المواطنة كواقع ومفهوم؛ أي أن يقبل الكل الحق المتساوي تحت مظلة دولة القانون والدستور والشرائع والأعراف المستقرة، والحقوق والمتساوية وكذلك الواجبات المتساوية.
وأخيرا مع أن المشهد في العديد من الدول العربية التي تعيش هذه الفوضى؛ يبدو قاتما وشديد الحلكة طالما استمرت حالة العناد السياسي بدلا من البحث عن نقطة التوازن التي تحقق مصالح الجميع. إلا أنني أعتقد من واقع التجربة التاريخية للشعوب التي حققت أهدافها رغم تجاربها المريرة، أن الجميع سيدرك أن عملية التدمير الذاتي والاحتراب وسياسة الغلبة، ستتراجع لصالح قوة العقل العاقل والتسامح بحيث يصل الجميع إلى الحقيقية السياسية والاجتماعية التي تقرر أن الجميع مواطنون لا رعايا، وأنه لا مجال أمامهم إلا العمل على تجاوز حالة العناد المتبادل، لأن البديل لن يكون إلا التشظي والضعف للكل. لكن بشرط أن يكون ذلك في الواقع وفي النفوس ابتداء، لأن ثمن استمرار هذا العناد سيكون باهظا جدا على الجميع.
والخطوة الأولى على هذا الطريق هو أن تنتصر الذات على الذات لصالح الكل، ومن هنا على ما أعتقد تكون الخطوة الأولى في طريق الألف ميل.