الحق في الصحة ليس منة بل هو معيار وجود الدولة الراشدة والعادلة ، والتي تجعل النظام الصحي محكوماً بقوانين واضحة ورقابة فعالة ، والتي تعتبر النظام الصحي ليس مجرد قطاع خدمي بل شهادة يومية على عدالتها وحكمتها وقدرتها على إيصال الخدمات الصحية لكل مواطن بالتساوي في الإمكانيات والجودة والزمن ، وقدرتها على الاستجابة للأزمات في سرعة الإنقاذ والتعافي ، وايمانها بأن الصحة أساس التعليم والعمل والإنتاج ، وهي ركيزة الاقتصاد واستقرار المجتمع ، وأساس التنمية المستدامة ، وهي التي تسعى نحو نظام صحي موحد ومرقمن يضمن التغطية الصحية الشاملة والعدالة الصحية ، وللأسف بلادنا تعاني من تشوهات عميقة تتجسد في تجزئة الخدمات الصحية ، وغياب التكامل بين الرعاية الأولية والعلاجية والتأهيلية ، والاعتقاد الخاطئ بأن الدولة عليها مسؤولية الرعاية الصحية الأولية بينما تترك الخدمات الاستشفائية والعلاجية والتأهيلية للقطاع الخاص وشركات التأمين ، ويزداد الخلل خطورة عندما ينظر إلى التأمين الصحي باعتباره الحل الأمثل لتمويل الخدمات الصحية ، فيتحول إلى بوابة واسعة للفساد ، ونهب الثروة العامة ، وتدهور صحة المواطن وافقاره ، وتعميق الفوارق الاجتماعية ، والتجارب المشابهة اثبتت انه زاد من التمارض والفساد بدل أن يحد منه ، وفتح المجال لتجار الصحة عبر خدمات رديئة وفواتير متضخمة ، وأدى إلى تسويق أدوية ومستلزمات مغشوشة ومزورة لحساب شبكات مافيا الصحة ، وتضخيم دور السوق الصحي ، وهمش دور الدولة في حماية صحة مواطنيها ، وأضعف المستشفيات العامة ، وركز على الكم لا على النوع ، فأصبح الهدف زيادة الإنفاق والفواتير لا تحسين الجودة ، وحتى لا تغرق الدولة في مزيد من إنهيارات في الخدمات الصحية عليها أن توقف هذا التشظي والتجزئة في اللانظام الصحي ، وتسعى جادة في بناء نظام صحي موحد ومرقمن يقوم على التكامل الصحي ، بتمويل عام مباشر من خزينة الدولة بحوكمة وشفافية ، باعتبار الصحة حق وليست سلعة ، وإن كل دينار أو دولار يستثمر في تعزيز صحة الناس يمنح الدولة رأس مآل بشري لا يقدر بثمن ، على إن التكامل يكون بين الخدمات الوقائية والعلاجية والتأهيلية والصحة الواحدة التي تربط صحة الإنسان بالبيئة والحيوان في منظومة شاملة ، يحقق وصول الجميع وحصولهم على خدمات صحية متقدمة وعالية الجودة ، دون إفلاس مالي أو تمييز بين الناس والمناطق ، بملفات صحية موحدة ومرقمنة ( سجلات إلكترونية ) ، ورقابة على الأدوية والمستلزمات والكوادر والاداء والنتائج ، ومنع وتجريم تضارب المصالح ، ومنع الجمع بين العام والخاص ، وإن الرهان على التأمين الصحي المشوه في دولة ريعية ليس سوى إستمرار وزيادة الأمراض ، وتوسيع فجوة الفساد الذي لا ينهب المال فقط بل ينهب أعمار الناس وكرامتهم ، وتدمير ممنهج للمستشفيات والمؤسسات الصحية العامة والتعليم الطبي العام الذي أصابته العدوى التدميرية ، فلا قوة لدولة تنهار مستشفياتها ولا توجد لديها منظومة تعليمية طبية متكاملة وفق المعايير الدولية ، إن الرهان الحقيقي هو على بناء نظام صحي متكامل قوي وفعال ومنصف يحمي الإنسان قبل الجيوب ، ويمنع المرض بدل أن يزيد المرض والتمارض ، والبديهي من يهمل الصحة يترك مواطنيه فريسة للمرض والاستغلال والابتزاز ، ومن يبني نظاماً صحيًا عادلاً يضع أساساً متيناً لنهضة الأمة ، والعدالة تبداء من ما قبل سرير المريض إلى ما بعد التعافي ، والحوكمة الحقيقية تقاس بقدرة الدولة على صون حياة مواطنيها ، إن قوة النظام الصحي تعكس قوة الدولة فهو المرآة التي تكشف صلابة الإدارة ونزاهتها أو ضعفها وفسادها ، ومهنية ومتخصصة أو إفراز النفوذ السياسي أو المالي ..
الصحة حق وليست سلعة
د.علي المبروك أبوقرين