حين يُذكَر الصافي سعيد، لا يعود الحديث عن كاتب وصحافيٍ فحسب، وإنما عن عقلٍ جيوبوليتكي متوثّب، يجمع بين شغف المؤرّخ ودقّة الجغرافي وحسّ الروائي.. إنّه نموذج فريد في الثقافة العربية الحديثة؛ يلتقط من الماضي جذوة تُنير الحاضر، ويقرأ المستقبل كما لو كان ممراً عميقاً محفوراً تحت ركام الحروب والهويات والأساطير السياسية.

إنه ابن خلدون هذا العصر و هذا ليس تعبيرًا احتفاليًا، بقدر ما هو محاولة لالتقاط جوهر مشروعه؛ فالرجل أعاد إلى المخيال العربي جرأة رسم الخرائط، ورؤية حركة الأمم كما تُرى التيارات العميقة في قلب البحر.
في كتاباته وتحليلاته، لا يشتغل الصافي سعيد على سطح الأحداث، إنّما ينفذ إلى “روح المكان”، إلى تلك الطاقة الجغرافية التي تشتبك مع التاريخ والدم والذاكرة. ويرى أنّ الجيوبوليتك ليس علماً جامداً، وإنما سردية كبرى تكتبها الأمم بقوة المصالح وصراعات البقاء. حسبنا أن نتأمل بتمعّن في هذه الأعمال: سنوات المتاهة، و عودة الزمن الإمبراطوري، وجيوبوليتيك الدم، وجيوبوليتيك الأمم؛ لندرك مدى أهمية أن يشرح و يشرّح الكاتب بأدقّ التفاصيل المشهدين الإقليمي والعالمي، وأن يفتّش في آليات الحضارة في ظلّ جبروت جغرافيا السياسة التي لا ترحم ولا تهادن. ومن هذا المنظور يشخّص المنطقة العربية باعتبارها مجالاً متحرّكاً تتصارع فيه الإرادات، ويتداخل فيه الموروث الديني بالخيال القومي، وتتنازع فيه القوى على مشارف الصحاري والمضائق وممرات النفط.

ويقدّم سعيد رأياً لافتاً يتكرر في كتبه ومحاوراته، مفاده أنّ الرقعة الممتدة من الخليج إلى المحيط، وصولاً إلى الشرق الأوسط بأسره، ليست مجرد ساحة تنافس سياسي، وإنما مسرح تناطح بين أربع قوميات أو حضارات كبرى: الفارسية التي تستند إلى عمق إمبراطوري طويل، والتركية النورانية التي تستعيد إرثاً عثمانياً بنَفَس توسعي جديد، والعربية الموزّعة بين اتساع جغرافي هائل وتناقضات داخلية مُنهِكة، واليهودية التي يجري تشكيل قومية حولها بدعم غربي واسع ورؤية متوغلة في مفاصل الإقليم.

وينظر سعيد إلى هذه الخريطة بوصفها إعادة إنتاج لأسئلة قديمة: من يملك الطريق؟ من يفرض الهوية؟ ومن يحجز مقعده على طاولة المستقبل؟
وما يميّز طرحه أنه يعيد قراءة الأحداث الكبرى وفق منطق “الدورات الحضارية”. فالحروب، في نظره، ليست مجرد أزمة عابرة، وإنما لحظات انكشاف لبنية الدول وصلابتها أو هشاشتها.
وعندما يتأمل انهيار العراق وسوريا وليبيا واليمن، يراه انفجاراً لنظام توازنات قديم وصعوداً لقوى جديدة تبحث عن موطئ قدم في خارطة تتشكل من جديد، خارطة تشبه ما عاشته أوروبا بعد الحروب النابليونية حين كانت الهوية أكبر من الدولة، والدولة أضيق من الشعب، والشعوب أوسع من حدودها.
ولأنّ الصافي سعيد ابن مدرسة تتقاطع فيها الفلسفة مع السرد، فإنّه لا يكتفي بالتحليل الجاف، وإنما يزرع أفكاره داخل حكايات، يستدعي الفينيقيين، والإغريق، والعرب الفاتحين، والمماليك، والبحارة والتجار وكل الذين عبَروا المتوسط والخليج كأنّ المنطقة دفترٌ تقلب الريح صفحاته. ومن خلال هذا الأسلوب، يجعل القارئ يرى الجغرافيا كحكاية، والتاريخ كظلال تسير معه خطوة بخطوة.
أما تشبيهه بابن خلدون، فينبع من قدرته على إدراك القوانين الخفية لصعود الأمم وسقوطها. فابن خلدون شهد انكسار العمران العربي الأندلسي، والصافي سعيد يشهد تصدّع العمران العربي الحديث. كلاهما رأى كيف تنهار الدول حين تتغلب العصبيات الضيقة على المصلحة العامة، وكيف يتحول البحر إلى مسرح للتنافس حين تعجز الأرض عن إنتاج الاستقرار.
وتتبدّى فرادة الصافي سعيد في كونه لا يُنصّب نفسه مفسّراً مطلقاً للشرق الأوسط، وإنما قارئاً تتنازعه شكوك الروائي وجرأة الجغرافي. يكتب في السياسة كما لو يكتب عن مصير مدينة، ويكتب عن المدن كما لو يصف حركة جيش، ويكتب عن الجيوش كأنه يتحدث عن شعوب تبحث عن معنى وجودها. وهنا تتجلى السمة الخلدونية في مشروعه: تحويل التاريخ إلى مرآة، والجغرافيا إلى سؤال، والمستقبل إلى مجال مفتوح للتأويل.
ومهما تعددت المواقف منه، يظل الصافي سعيد أحد الأصوات القليلة التي أعادت إلى الخطاب العربي شغفه بالتحليل الواسع ورغبته في فهم الحركة العميقة للأحداث. ومن يتأمل كتاباته يدرك أنّ ما يقدّمه ليس حكماً مغلقاً، وإنما دعوة إلى رؤية أوسع، كأنّ المنطقة تقف على عتبة عصر جديد لن يُفهم إلا إذا أمعنّا النظر في جذور الصراع بين تلك القوميات الأربع التي ما زالت ترسم حدود الشرق وتكتب حكاياته.
يتقدّم الصافي سعيد في المشهد الفكري الحديث بملامح تشبه ابن خلدون، ليس عبر التكرار، وإنما عبر إعادة اكتشاف السؤال ذاته: كيف تتحرك الأمم؟ وما الذي يجعل هذه الرقعة من العالم مسرحاً دائماً لصراع الهويات والقوى الكبرى؟ سؤال يتجدد، ورجل يلاحقه بلا كلل.
منصة الصباح الصباح، منصة إخبارية رقمية