منصة الصباح

الشاعر الذي حبّر الشعر بماء الحداثة

د. علي محمد رحومة

يعتبر علي الفزاني من أبرز رواد الشعر الليبي المعاصر

    ومن أغزر شعرائنا إنتاجا، وأكثرهم تجريبا وتحليقا في آفاق الفن والإبداع…

لفت انتباه النقاد الليبيين والعرب منذ بداياته، وكتبوا كثيرا عن دواوينه وتطوره الإبداعي…

استلهم لغة شعرية خاصة، مشحونة بالرمز والعاطفة،

    واستخدم تعابير تراثية كمفاتيح دلالية لمقاصده ومراميه المتداخلة…

يمكن اعتبار تجربته الشعرية منذ النصف الثاني من السبعينيات،

    من أول وأهم تجارب الإبداع الشعري الحداثوي العربي …

تجربته الإبداعية:

من الناحية الفنية، كان علي الفزاني دائم التجريب، يحاول في كل مرة الإتيان بما هو طازج، وساخن من عيون الشمس، ومن بين جفون القمر الدافئ.. أشار بعض النقاد إلى تتأثره بمن سبقه بصورة واضحة في بعض أشعاره، سواء في بداياته أو بعد ذلك، خصوصا أشعار عبد الوهاب البياتي وبدر شاكر السياب… والحقيقة أن تأثر الشعراء بإبداعات الآخرين والتفاعل معها بصورة أو بأخرى أمر طبيعي، وقد يكون ذلك مطلوبا على نحو ما.. خاصة في بداية التجربة الشعرية، وربما في مراحل أخرى لاحقة… ذلك لأن الشاعر لا بد له أن يقرأ النماذج الشعرية التي أمامه باهتمام خاص، وأن يتشبع بثقافة الشعر والأدب والفكر بعامة، في عقله ووجدانه، حتى يكون ذا معرفة عميقة واطلاع واسع يستفيد منه في تجربته الشعرية، ويكون ذلك أيضا بمثابة اختبار له لاكتشاف صوته، ومدى قدرته على تجاوز الآخرين والتميز عنهم.. هذا إذا كان الشاعر فعلا أصيلا، وصاحب موهبة حقيقية، ويستحق خصوصية التفرد بكونه الشعري الخاص.. وإلا سيظل الشاعر يدور في دوامة التجريب والتأثر السيئ بالآخرين، إلى ما شاء الله.. وهذا تماما ما نلاحظه في المكرور الشعري المتفشي هذه الأيام بكثرةّ!…

في هذا السياق تحديدا، يقول علي الفزاني، في رسالة إلى صديقه الكاتب محمد وريث، بتاريخ 6/1/1968: “إنني حاولت مستميتا خلال سنوات 59 و 60 و61، أن أتجنب السير في كوكبة فرسان (إليوت) المقنَّعين. وأن أبتعد عن التأثر بالألوان الملتزمة بشكل لا يتفق والواقع العربي. أعني أنني حاولت بالضبط أن أرسم طريقي بنفسي، سواء في الشكل أو المضمون. وإذا كانت آثار قراءاتي لهيمنغواي، ونزار قباني، والبرتو مورافيا، وغوركي، وصادق النيهوم، وخليل حاوي، قد أثرت على بعض نتاجي، فهذا مكسب جيد، خاصة إذا عرف المرء أي معاناة يلاقيها الأديب في التخلص من آثار قراءاته”.]2[

يلاحظ في شعر الفزاني إحساسه العميق بالضياع، والاغتراب، وإدانته للحياة المعاصرة الجافة، مدنية الحضارة الحديثة وسلبياتها التي أرهقت الإنسان بأعبائها المعيشية والسياسية والاجتماعية المعقدة. وهذه سمة معروفة في الشعر الحديث، ظهرت جلية في الشعر الغربي بعد الحرب العالمية الأولى، وما تلاها من تطورات صناعية وتغييرات حادة في المجتمعات الغربية، فيما عرف بتفجع الحداثة وانتحاب شعرائها مثل الشاعر الأمريكي المغترب ت. س. إليوت، وأضرابه.. وقد انتشر صدى الحداثة المأساوي عالميا، عاكسا فاجعة آثار الحروب والدمار، ومؤثرات التحولات الصناعية المتلاحقة في حياة الناس ولهاثهم وراء المادة وابتعادهم عن المعنى والجوهر الإنساني… وفي الخصوصية العربية، بالإضافة إلى ذلك، كانت قضية الشاعر العربي مناهضة الاستعمار ومقاومته، والوقوف ضد الظلم والطغيان، والجوع والفقر والقمع، والاستبداد، أينما كان.

لذا، يرى الناقد الذي يعرض لشعر علي الفزاني وبوحه المتألم، أنه “يعيش بعده الرابع، يعيش زمانه، ويمشي مع مواصفات عصره، آملا، وزافرا الأنين، مثقلا بالأسى حينا آخر، وحاملا رمزه مرتعشا كالنور في دنيا الاختناق، والشعر إفراز فني لتركيب عقلي-عاطفي من نوع خاص، وهو تلخيص رياضي لمسطحات الزمان والمكان”.]3[

لقد كان علي الفزاني بحق، شاعرا حزينا، متجددا في حزنه وألمه وإبداعه.. يحاول التجديد دائما، ولا يجد لذلك نهاية ترضيه… وتغدو الكتابة المنصفة حول تجربته الإبداعية مهمة شاقة، على رأي فوزي البشتي. ليس فقط لغزارة شعره وكثرة إنتاجه، بل أيضا لكثرة قلقه، وتواصله في أهوال التجربة الشعرية وتحدياتها في شتى تجلياتها…]4[

لم تكن التجارب المتواصلة لعلي الفزاني مجرد قفزات بهلوانية في الهواء الطلق، وإنما كانت تعتمد على ثقافة عميقة، شهد له بها دارسو شعره، ساعدته “في ارتياد المسارب الوعرة والمناطق المجهولة، كوّنها الشاعر على مهل وفي دأب عجيب، ويسنده رصيد هائل من الشاعرية الدفاقة التي تنضح باستمرار، وتتجدد عبر كل تجربة إبداعية حتى ليصاب القارئ بالدوار والإرهاق وهو يتابع رحلات الشاعر المستمرة، وتحليقه الدائم نحو منابع الفن والإلهام البكر”.]5[

شاهد أيضاً

بحضور المدير التنفيذي للمؤسسة الوطنية للإعلام: اختتام الدورة التي اقامتها هيئة الصحافة في مجالات الادارة الحديثة

اختتمت اليوم الخميس 21 نوفمبر بالهيئة العامة للصحافة الدورة التدريبية التي نظمتها الهيئة العامة للصحافة …