منصة الصباح

السندان

أحمد الغماري

لا ريب في أن لكل مبدعٍ سواء كان أديباً أم موسيقاراً أم فناناً تشكيلياً ذخيرة من نفائس الكتب والدوريات والصحف والنشرات، وربما حتى شيئاً من المخطوطات النادرة وأشياء أخرى وقعت بين يديه، إما خلال رحلته الطويلة من الشراء والاقتناء والتجميع لعناوين تهمه في مجاله أو كانت قد أثارت فضوله فرغب في الاطلاع عليها واقتنائها، أو من  خلال ما أتيح له من فرص الوصول إلى مخازن مطبوعات – لم تتح لأحدٍ من قبله – ولم تكن المعلومات عنها شائعة، فضمها إلى عناوينه وأصبحت من ضمن ممتلكاته الخاصة، يعود إليها وقتما رغب ويفتخر بها أمام أقرانه وفي حواراته بل ويزين بها أرفُف مكتبته الخاصة.

ما تقدم وصفاً لما يمتلك أي مبدع في حياته من ثروة قد لا يعرف أحياناً قيمتها المادية أهله إذا كانوا من بسطاء الحال، وقد يفطنون إلى ذلك إذا ما أبلغهم أحدهم بثمنها، فيهرعون إلى بيعها إن لم يوص قبل رحيله بإهدائها، لكن السؤال الذي يفرض نفسه أين من المفترض أن تذهب؟ أإلى سوق (العتق) أم إلى مؤسسات الدولة الثقافية والمكتبات العامة؟

في دول عدة من العالم المتقدم تعد الكتب والمكتبات الخاصة التي ترثها المؤسسات الثقافية بالمجتمع ثروة نفيسة وقيمة معنوية عالية، لاسيما عندما تعود – تلك المكتبات – إلى أحد رموز الثقافة الكبار، عندئذ تكون محط اهتمام من لدن المثقفين ومرجعاً للدارسين والطلاب والباحثين والراغبين في المطالعة، بعد أن يتم التنازل عنها من قبل أهل المبدع إذا كانوا ميسوري الحال، أو بيعها إن كانوا يعانون شظف الحياة وبؤسها، وتُنقل ملكيتها إلى مراكز ثقافية أو إلى مكتبات جامعية أو عامة، وتضحي متاحة أمام الناس، لمن يرغبون في معرفة ما الذي كان يمتلكه ذلك المبدع ويقرأه من عناوين خلال حياته الزاخرة.

خطوة في هذا الاتجاه جاءت من صاحبها الذي أراد أن يقوم بها في حياته، وكنتُ شاهداً على تفاصيلها ومشاركاً بجهد بسيط مع ثلة من المثقفين الذين لبوا الدعوة التي وجهها إليهم الكاتب الكبير يوسف الشريف، لمساعدته في «صندقة» مكتبته الخاصة المشبعة بالعناوين والكتب والدوريات القيمة، يوم أن قرر صباح نوفمبر المنصرم إهداءها إلى مكتبة كلية الآداب بجامعة بنغازي، الكلية التي جلس فترة شبابه على مقاعد مدرجاتها كسباً للعلم والمعرفة وشهدت ردهاتها مطلع ستينيات القرن المنصرم لقاءاته وأحاديثه مع طلابها، أرسل بها إلى هناك عبر الطريق البري لتكون عوناً للدارسين وسنداً للباحثين في شؤون الأدب والعلوم الإنسانية، ألحقت هذه الخطوة بخطوة أخرى أقدمت عليها أسرة الشاعر الراحل رجب الماجري التي قررت التبرع بمكتبته الخاصة إلى مكتبة كلية القانون بالجامعة ذاتها.

إن إرساء تقاليد التبرع أو حتى بيع المكتبات الخاصة إلى المؤسسات العامة بعد رحيل أصحابها لهو سنة حميدة سنت منذ زمن ليس بالبعيد، لهذا عدة منافع ليس أولها التعرف والوصول إلى إصدارات نادرة ربما تكون قد اندثرت من المكتبات ولن يعثر من يبحث عنها عن أية نسخة منها، وليس آخرها تجنيب تلك القيمة المادية والمعنوية من المعارف خطر تعرضها للحرائق أو التلف جراء سوء التخزين من تأثير الرطوبة والحشرات الضارة.

في مطلع تسعينيات القرن المنصرم وفي محاولة للاهتمام بالأماكن المعمارية التاريخية تم ترميم بعض المباني الكائنة بالمدينة القديمة في طرابلس، ذات القيمة التاريخية والجمالية ومثلها أيضاً في بعض المدن الليبية الأخرى، وتحولت بعضها إلى دورٍ للثقافة والمناشط الفنية، كدار انويجي ودار الفقيه حسن الفقيه بطرابلس اللتين ضمتا مكتبتين كبيرتين يرتادهما اليوم طلاب الجامعات ومن لديه شغف القراءة والمطالعة، وكانت مكتبة دار انويجي قد استقبلت تبرعاً وشراءً كتباً ومكتبات خاصة تعود للكاتب الكبير الراحل عبدالله القويري، وأيضاً للقاص الراحل عبدالقادر أبوهروس والناقد كامل عراب والأستاذ فؤاد الكعبازي.

لكن شخصية المبدع لا تنحسر في الأديب الكاتب الذي يؤلف كتباً ويتكيء على مكتبة ضخمة، بل أيضاً التشكيلي الذي يمتلك لوحات قيمة ومطبوعات لأعماله ومكتبة فنية نادرة أحياناً، والموسيقار الذي يمتلك آلات وتسجيلات صوتية ومطبوعات لنوتات موسيقية، فأين تذهب تلك القطع الفنية القيمة بعد رحيل أصحابها؟ سأترك الحديث حول هذه المسألة لمقال عدد الأسبوع القادم.

 

شاهد أيضاً

إنهاء تطوير مبنى المرور والتراخيص طريق السكة

أنهى جهاز تنمية وتأهيل المراكز الإدارية تنفيذ مشروع تطوير مبنى مكتب شؤون المرور والتراخيص بطريق …