منصة الصباح

“السعادة من الارادة” معرضاً استثنائياً ملهماً لإيتل عدنان في “غاليري أليس مغبغب بروكسيل”

بلغ صيت أعمال إيتل عدنان خلال السنوات الماضية بعدًا عالميًّا يصعب التغاضي عنه، عاكسًا مزاياها الفنيّة والأدبيّة بقدر ما عكس مختلف أوجه شخصيّتها.

فمجموعة أعمالها الفنّية التشكيلية، من اللوحات والرسوم والرسم بالحبر الهندي، إلى النسيج المطرّز والخزفيّات وفنّ الخطّ والكتب الأكورديون (Leporello)، فرضت وجودها بجمال وخفّة أشكالها وألوانها وبداهة عفويّتها المبدعة، تأكيدًا لفوريّة رغبتها التعبيريّة من جهة وحالة تكوّنها من جهة أخرى.

ما يجذب العين قبل أيّ شيء آخر هو السرور، لا بل سعادة التأمّل. إلّا أنّ هذه البساطة المطبوعة بالفرح التي تتكشّف عن هذا الانطباع الأوّل لن يكتمل معناها ولن تترك بصمة فينا إلّا إذا وجّهنا انتباهنا بعدها إلى تنوّع شخصيّتها وعمقها وحيويّتها، وهي صفات تسلّط الضوء على قوّة فطنتها الإبداعية. فإيتل عدنان تغذّت منذ نعومة أظفارها على تعدّد الإدراكات الحسّية، والأحداث الدامغة أو الخبرات التي واجهتها في منطقة الشرق الأوسط حيث ولدت وترعرعت، والتي تحمل وسمها طوال حياتها. اليوم، ومن ذروة اكتمال سنواتها الثلاث والتسعين من حياتها الغنيّة، لا تتوقّف عن توجيه هذه النظرة المنفتحة والعطوف، الناقدة والثاقبة، على مستقبل العالم وإيجابيته المرجوّة، متخطّيةً مآسي التاريخ.

ولدت إيتل عدنان في بيروت في العام 1925، وتشرّبت الثنائية اللغوية من والدتها اليونانية ووالدها السوريّ الذي يتقن التركية، ومسقط رأس كلّ منهما إزمير. أُلحقت بمدرسة فرنسية منذ سنّ الخمس سنوات وتعلّمت الإنكليزية كما العربية الفصحى، وهي اللغات الثلاث المكتوبة والمحكيّة بشكل أساسيّ في الحياة اللبنانية اليومية. تابعت إيتل دراستها العليا في لبنان ثمّ في فرنسا حيث حازت عن عمر 24 سنة دبلومًا في الفلسفة التي تابعت دراستها في ما بعد في جامعتَي بيركلي وهارفرد بكاليفورنيا. من العام 1958 إلى العام 1972، علّمت فلسفة الفنّ في الجامعة الدومينيكية في سان رافايل، شمال سان فرنسيسكو، كما حاضرت في العديد من الجامعات الأميركية واستمرّت في التنقّل بين المدن الأوروبية الكبرى، عائدةً باستمرار إلى بيروت والشرق الأوسط، قبل أن ترجع إلى فرنسا وباريس حيث تعيش حاليًّا.

ما انفكّت إيتل عدنان تحمل في أعماقها هذه الوفرة، أو هذه التعدّدية1 كما سمّتها بنفسها، التي تميّز شخصيّتها الغنيّة بتنوّع تجاربها الحياتية ومكتسباتها، وباتّقاد فطنتها من جهة، كما باستيعابها الأمور اليومية ومقارباتها الحسّاسة لها من جهة أخرى.

إنّ مجموعة أعمالها الأدبية تكشف فكرها الرحّال كـ”منفيّة طوعيّة” تحاول باستمرار أن تحفظ حرّيتها بإعطاء الأولوية لامتداد هذه الهويّة، هذا الامتداد الذي أشاعته في شتّى محطّاتها الوجودية بين ثقافات الشرق الأوسط وكاليفورنيا وأوروبا، إذ جاءت كتاباتها حسب الأماكن والظروف بالإنكليزية والفرنسية والعربية أحيانًا، باعتبارها أنّ اللغات أدوات ووسائل.

إلّا أنّ ميلها إلى اللغات والأدب لم يكن كافيًا ليغطّي تطلّعاتها على تنوّعها. فكان لا بدّ لها من استكمال عملية نقل الفنون فلسفيًّا وأدبيًّا من خلال الدراسة وثبات ممارستها الشخصية، باجتهادها لإتقان فنون النسج المطرّز، واستخدام لوحة ألوان الرسّامين، وريشات الحبر الهندي، وإحكام خطّ النصوص العربية التي ألّفها أصدقاؤها من الشعراء اللبنانيين. كلّ ذلك لتوسيع متن تعدّديّتها التي استطاعت أن تطوّرها “بسعادة” وسكينة.

عمل اليد وعمل الروح، على غرار الحركة والكلمة التي أصبحت بالنسبة إليها محطّ النظر، هذه الرؤية التي تحملها في أعماقها، يرتكز الواحد على الآخر، يرجّع الواحد صدى الآخر، ينقلان جَرْسهما: “نرى لنرسم، ونرسم لنرى… إنّ الرسم يعبّر عن جانبي السعيد، ذلك الذي يشكّل واحدًا مع الكون.

هذه السعادة بأن تفعل وتنجز، سمحت لها بأن تتحرّر من الإحتمالات، وبأن “تشاهد البحر وتسمع صوت تنفّسه” في بيروت يعلو فوق أسى الحرب ودويّها، وبأن تجد في كاليفورنيا “غزارة النور” الخاصّة بالشرق الأوسط، أو أن تقف قبالة لوحة “جبل سانت فيكتوار” لسيزان وتستذكر الضوء والحجارة الذهبية في بعلبك. “الحياة هي نسج وتطريز”، تذكّرنا في كتاب تتحدّث فيه حول اكتشافها فنّ النسج المطرّز في جامعة سان رافايل للمرّة الأولى وهو الأمر الذي أطلق ممارساتها الفنية التي نستعيد ههنا رمزية خيوطها العديدة التي لا تنفكّ تنسج تعدّديّتها.

المعرض الذي يُقام حاليًّا في ريفولي، يُظهر في هذا السياق نموذجين، من بين نماذج أخرى كثيرة، مسلّطًا الضوء مرّة جديدة على ما تقوم به إيتل عدنان من عمل على التكامليات والاختلافات.

العنوان الرئيسي الأول في هذا المعرض، عبارة عن سلسلة من الرسوم بالحبر مخصّصة للشجرة. فموضوع الشجرة القديمة قدم الزمن، أبعد من كونها ترمز إلى أرز لبنان، البلد الوحيد الذي يمكنه أن يجاهر بها على أنّها رايته، يستوقفنا اليوم أكثر من أيّ وقت مضى لمعرفتنا بأنّ فرضيّة انقراضه عن وجه الأرض، وهي احتمال مستقبليّ معقول، إشهارٌ بانقراض الجنس البشريّ. خطوط الحبر السوداء هذه، اللافتة والخاصّة بإيتل عدنان، تذكّرنا بأنّ كلّ شجرة، وفي كلّ سنة من حياتها المديدة التي قد تبلغ أحيانًا قرونًا، تجدّد حيويّتها من ربيع إلى آخر، مؤكّدةً بذلك انتظام عودتها إلى الحياة، إذ تغذّت من التنوّع وتمدّد جذورها باطنيًّا بقدر ما تغذّت من كثافة النور.

لهذا السبب، كما ذكرت في إحدى مقابلاتها، “يجب ألاّ يتمّ لقاء أو ينعقد اجتماع إلّا تحت شجرة”. إلزام مبهج يحضّنا على التمسّك بـ”الجامعة المفتوحة” التي تحلم بها لمستقبلنا، والسماح لأنفسنا بأن يكون لها حيّز في المكان والزمان لنعيش “جماليّة المشاركة”.

ثمّ تتجلّى القوّة الشاعرية لمجموعة من التدرّجات اللونية المتنوّعة، في تباين مع الحبر الأسود في رسومها، وتبسط مداها في العنوان الرئيسي الثاني الذي يتصدّر هذا المعرض. كتاب “لابوريلو” بمقاييس فريدة مقارنةً بالكتب الأكورديون الأخرى التي رسمتها إيتل عدنان، يتألّق عبر صفحاته المزدوجة المشرّعة على مصراعيها ببريق يظهر في كلّ مرّة مختلفًا، بل غير متوقّع حتّى وفق قراءة بصريّة شبه مرتبكة، بريق ألوانها الممهّدة وخطوطها المموّجة. إنّ إيتل عدنان تقوم هنا بتطوير دراسة حول الاختلافات والتشابهات التي يمكن أن تولّدها التباينات بين التدرّجات اللونية. ولا تعود الاستقامة التي تجمع بين تسلسلها، الطيّة على الطيّة، هي الاستقامة المرتبطة بالنسخ الخطّيّ لقصيدة ما، بل تلك المنبعثة من الأصداء التي تضفيها النظرة اليقظة إلى ديناميّة الألوان وتراصّ التباينات، ديناميّة يعكسها حيّز هذا الكتاب في المكان كترنيمة لا يمكن لمدّتها إلّا أن تُرى.

مرّة جديدة، تطرح إيتل عدنان هنا تجديدًا للطريقة التي يُنظر بها إلى أعمالها. فهي ليست رسّامًة أو مصمّمة رسوم أو شاعرة أو خطّاطة أو فيلسوفة تقدّم دروسًا في الصمت فحسب، بل هي وقبل كلّ شيء فنّانة متعايشة كلّيًّا مع الحاضر، تضيف اليوم قيمة على إمكانات تهجين الإمكانات الفنيّة، كما البستانيّ الذي يعمل بكامل حريّته على تجهيز غرائسه لتجديد مجموعته الخصيبة وثمارها في بساتينه وإعادة حيويّتها لها. بهذا المعنى، تفرض إيتل عدنان نفسها اليوم، لا كفنّانة وكاتبة متعدّدة الثقافات فحسب، إنّما أيضًا وبحسب التسمية المستخدمة في العلوم الأخلاقية الحركيّة الحيوية المعاصرة، كفنّانة “راسخة الثقافة” تدير أنظارها/أنظارنا نحو مستقبل مُعَدّ للأفضل وليس للأسوأ.

 

 

 

شاهد أيضاً

مُشاركة ليبية في كتابٍ عالمي حول ثقافات السلام

  شاركت عميد كلية اللغات بجامعة بنغازي “د.هناء البدري”، رفقة أخريات من فلسطين، والسعودية، وبريطانيا، …