زكريا العنقودي
زمان كان التلفزيون (وش) للساعة ستة عشية، ستة ودقيقة نشيد وطني بعدين تطلعلك مذيعة تقرأ عليك شن هناك في الستة ساعات التالية متاع الإرسال؛ (على فكرة هي كل ما في الصندوق)، بعدين هات ما عندك. (الواحد الله) برامج الأطفال جنة الأزهار و(فكرية آدم) يا حسرة. ثم يفتح باب الجديَّات (سندباد، دايسكي، تاكايا تيدروكي، الغواصة الزرقاء، توم سوير، فلونة).. الكل أمام الشاشة حتى الوالد يترك دور الرجل الصعب المراس ويحلق مع (الدوق فليد). هات اللي هناك ما فيش مشكلة المهم رسوم حتى متع الولد اللي يرسم حاجة على الحيط تولي حقانية! لقد كانت فقرة تجمع كل العائلة على تلفزيون واحد ومحطة وحدة، بعدها يتفرق جمعنا من جديد فما تأتي به المحطة بعد ذلك مش شورنا (شورهم): موجز الأنباء، مع الجماهير، الأرض والفلاح (وزراعه مهناك)، الصحة والمجتمع (والناس اتداوي عربي وترن زي القرش). ويستمر ذلك إلى الساعة عشرة ونص أي بعد نشرة الأخبار، رويدا بعد ذلك نأخذ بالعودة للبيت واحد إثر الآخر. الوالدة مجهزة العشاء اللي ياكل حصته يقيم صونيته فالزحمة مسموح بها فقط لـ(عالة) الشاهي، مع صوت رغوة العالة تبدأ فقرة أغاني السهرة (يا زنقة الأحباب ما ننساك) ويا (حوش العيلة يا عالي) و(فتنا النخل والديس وتعدينا)، أسمع وتفرج أنت وهلك وخوتك فلا خجل ولا حرج، ومسك الختام (وردة) و(فايزة أحمد) ولا العراقي متع (هلك وين يا نجوى؟) ولا بوبكر سالم (يا دوب مرت عليّ أربعة وعشرين ساعة، ضاع الهوى يا خسارة ضاع، ضاع كل الضياع). مع انتهاء أغاني السهرة تصل آخر طاسة شاهي وتكون مميزة جدا؛ وكيف لا وهي الثالثة وباللوز. بعدها تشرع الوالدة والبنات في تنظيف ما أثرناه حول جلستها سواء من صخبنا أو بقايا الخبز أو البسكويت المالح أو الكعك ولَّا خبزة الشعير (مكملات العالة)، بالمختصر المفيد. لنشرع بعد ذلك في متابعة السهرة (ارحل وحيدا)، (رياح الخريف)، (لمن تغني الطيور)، وكان السهرة ليبية جو وآخر متعة (الهاربة) ولا (الفال) ولا (مقادير). ومصطفى المصراتي يصيح بأعلى صوته (طباب قصاع طباب قصاع عليكم انادي) و(سنيور خميس بهدل الدنيا شحاحة للإنجليزي وبالتفرميط). وكان السهرة قوية وراضي علينا التلفزيون يجينا (فارس النجار) وين يطلّع إيده من القبر في مسلسل الصمت (بدعة ولا جاك نيكلسون) ما ترقدش ثلاث أيام من فرط الخوف؛ لا هلبة كيف ميت ومدفون ويطلع حي ويأخذ بالثأر من صغار مرته! بعدها تشرع المحطة في إسدال ستائرها (موجز) ما يشوفله حد، و(الشيخ الحصري وما تيسر)، بعده يبدأ دور بطل التلفزيون الأول والأخير فهو المفتتح والختام، وهو أيضا ساعات الانتظار الطوال فيظهر علينا السيد (وش) العظيم الذي يستمر في ممارسة عمله إلى الساعة السادسة من مساء اليوم التالي؛ أي نفس موعد الافتتاح (السيد وش ولا يقول ندهش مدام هو يوش)، ويشتغل 18 ساعة صلي. كان زمنا جميلا، لم يكن هناك الكثير من الإمكانات بالمقابل كان هناك كثير من الود وفائض من المحبة. (إثر ذلك تبدأ دورة الوالدة من نام فمن نام أمام التلفزيون تأخذه لفراشه أما البقية الأشد عودا فبعد أن يلوذوا بأسرّتهم تمر عليهم فردا فردا تطمئن على نوم الجميع، كلهم متغطي ومستريح ولَّا لا؟ ويا ويله اللي راقد بشخاشيره ومش غاسل رجليه ينوض يتوضى ويصلي ويعاود الرقدة في الجديد، هكذا كان الأمر يجري كل ليلة). الكل أنهى واجباته وجهز جدوله للمدرسة، من يشتغل يحظى بالمزيد من الاهتمام فتكون حصته بطانية النمر متاع (الجمعية) يعني قريب راقد فيها نمر حقاني ماركة!! في الصباح إفطار بالمتاح ثم نخرج لنتناثر على العالم كباقة ياسمين، ليس هذا بحالنا وحدنا بالبيت لكنه كان حال كل الليبيين لذا لا تجد بوجهك إلا صباح الخير وصباحك حليب. ونكمل جميعنا طريقنا لمدارسنا أو لأعمالنا، القريب (كعابي) والأبعد على (البشكليت) والأكثر بعد (الكوريرة-الأتوبيس) بثلاثة قروش، تتكفل بيه لين يوصل لمكانه. من سرق سعادتنا تلك؟ من مسح ملامح الابتسام من وجوهنا؟ لم صرنا ننظر شزرا لبعضنا؟ ما الذي حل بالثقة التي كانت تجمعنا؟ من زرع الخوف فينا؟ من ينثر الغبار على صباحاتنا بدلا عن زهور الياسمين؟ من ينثر بوجوهنا كل هذا الحقد وكل هذه الضغينة؟ أعيدوا لنا يوما واحدا بمحطة واحدة وتلفزيون واحد من غير ريموت كونترول، شوية (دايسكي) وشوية (يا حوش العيلة) وحتى فارس النجار (عادي) هههههههههههه، وفوق منه السيد (وش) العظيم.. والله العظيم راضيين. لكن كفانا كل هذا الغل والحقد فهو لا يمثلنا ولا يعبر عنا نحن الليبيين، وارحموا أطفالنا فلقد أثار جنونهم صوت رصاصكم وإنكم بعبثكم هذا لا تعبثون بحاضرنا فقد خسرناه مسبقا لكنكم بإدخال الرعب لغرف أطفالنا تحرمون ليبيا من مستقبلها إن لم يكن من وجودها ضمن خارطة العالم أصلا، بعد أن سلبتم مكانها ومكانتها بممشى التاريخ.