محمد الهادي الجزيري
تجلس أمام التّلفاز، حذوك بعض الفواكه والمشروبات، المُكيّف يُعدّل جوّ غرفتك، تضغط على زرّ التحكّم وتبدأ في الإبحار والاستمتاع؛ مقابلة بين الأرجنتين والبرازيل، تغزو أصوات المشجعين وصوت المعلق الجهوريّ الغرفة، ولكنّ البثّ فيه انقطاع يُعكِّر مزاجك، فتتحوّل من مواطن صالح ومهذّب إلى حيوان هائج، ثمّ تحاول أن تتحلّى بالحكمة اللّازمة لألّا تنسى أنّ ما يفصل بينك وبين المباراة مسافات شاسعة جدًّا، مسافات تتضمّن بحر الظلمات وذاك المحيط الّذي لا يشقّه ويعبره إلّا المجانين والمستكشفون، أولئك الّذين سهّلوا عليك متابعة هذه المقابلة عبر توغّلهم في المجهول ومُبالغتهم في الحلم. تتحلّى بالحكمة أخيرًا، وتفكّر في عدد الأحياء والقرى والمدن والدّول والأمم الفاصلة بين أريكتك والمباراة، وتنظر بإعجابٍ إلى قدرة البشر على بثّ ما يحدث في أرضٍ لم تزرها يومًا بشكلٍ مباشرٍ تعوّدت عليه إلى حدّ جعلك تغضب من انقطاع طفيفٍ. لقد عوّدتك الحضارة على أشياء وأفعال لم تكن تجرأ أصلًا على التّفكير فيها؛ أنت في بيتك الآمن، بابك مغلق، وفي ركنك تتوفّر كلّ الأشياء الّتي تحتاج، ومع هذا، تتجرّأ على فقدان أعصابك لمجرّد انقطاع خفيف.
إنّ عيبنا يتمثّل في تضخّم الأنا الّذي يجعلنا ننسى حجمنا في نهاية الأمر، ونسعى إلى أن نكون أكبر وأعظم من الحياة ذاتها، وأنا أكتب هذا النصّ من أجل هذا الأمر بالتّحديد، أي من أجل أن أقول إنّنا كبشر، ننسى حجمنا فنغفل عن إدراك عظمة ما يحيط بنا، وعظمة ما وصلنا إليه أيضًا، نحنُ مبدعون جدًّا أيّها الأصدقاء والصديقات، سنكتشف كم أبدع نوعنا لو تجاوزنا حدود الأنا ونظرنا إلى الحياة والحضارة من زاوية النحنُ. هذه الأنا تعيقنا وتمنعنا من إدراك الأشياء بدهشة، فمثلًا، لو نتخيّل شخصًا يغضبُ من تأخّر سفره بالطّائرة من باريس إلى تونس خمس دقائق فقط، ونفكّر في ما كان يحدث منذ زمنٍ قريبٍ، أي منذ نصف قرنٍ أو أكثر، سنجد أنّ النّاس كانوا يقطعون هذه المسافة من أجل أن يذهبوا إلى المدرسة الواقعة في الطّرف الآخر من مدينتهم أو قريتهم، بل إنّنا اليوم، في هذه اللّحظة، نعيشُ في عالمٍ يحدث فيه أن يقطع طفلٌ المسافة الفاصلة بين بيتهم ومدرسته في الوقت نفسه الّذي يقطع فيه شخصٌ المسافة الفاصلة بين باريس وتونس، ومع هذا، يتضايقُ المسافر من تأخير بخمس دقائق، والحال أنّه لو عاش في ماضٍ ليس ببعيدٍ، كان سيحتاج إلى وقت أطول بكثيرٍ من أجل أن يقوم بهذه الرّحلة؛ بفضل هذا التطوّر الجهنميّ، صار الإنسان يقطع في ساعات مسافات فاصلة بين قارّات ولغات وثقافات مختلفة، يفعل ذلك من دون أن يبدي دهشةً، ومن دون أن يرتبك قليلًا أمام هذا الإنجاز العلميّ الرّهيب. لو نعود إليَّ، أنا المتكّئ أمام التّلفاز، سأذكر لكم أنّي من مواليد ستّينات القرن الماضي، وأنّي قد عاصرت ثورات العلم واكتشافاته، وسأصارحكم بأنّ دهشتي لم تكن بحجمِ هذه الاختراعات الّتي مرّت بي، الرّاديو مثلا، لم يكن وجوده أمرًا هيّنًا بالنّسبة إليّ، ولكنّي سرعات ما تعوّدت عليه، ثمّ جاء التّلفاز، فاندهشت بادئ الأمر، ثمّ تجاوزت المسألة بسرعة لأندهش بالجوّال، وهكذا، محت كلّ دهشةٍ جديدة دهشة سبقتها، وتعوّدت على الاندهاش نفسه إلى حدّ صرتُ معه الآن راغبًا في أن أموت قبل أن أشهد اختراع الإنسان، فبعد اختراع الإنسان الآليّ، صار من الممكن جدًّا أن نصنع البشريّ، والعلماء الحالمون بتخليد أسمائهم عبر هذا الاكتشاف ليسوا بقليلين.
إنّ العالم مقبل على تغييرات جوهريّة وكبرى، ولو كنت المتحكّم في ما يحدث لقننّت عمل العلماء، فالحياة الإنسانيّة أهمّ من تحاليلهم المرعبة والمدهشة في آن، ونحن لا نستحقّ تلك النهاية الّتي نُهلك فيها أنفسنا، على الأقلّ، من الجيّد أن نكون أولئك الّذين قاوموا الطّبيعة وعبثيّة الوجود بالفكر والعلم والعواطف الكثيرة، لا أن نكون النوع الّذي تطوّر إلى حدٍّ جعلَ تطوّره يمحوه من الوجود.