منصة الصباح
جمعة بوكليب

الحرثُ في البحر

جمعة بوكليب

زايد…ناقص

في مرحلةٍ مبكرةٍ من عمري، كنتُ أسمعُ الناسَ من حولي يُرددون المثلَ في العنوان أعلاه. كنتُ كلما سمعتُهُ أتخيّلُ فلاحًا لا يحرثُ في أرضِهِ، بل في بحرٍ. كنتُ أتخيلُهُ يقفُ خلفَ محراثٍ (بِلْدِي) يجرُّهُ جملٌ أو حمارٌ. وكنتُ أستغربُ كيف يمكنُهم الوقوفُ على الماءِ. وأتساءلُ عن الأسبابِ التي تضطرُّ فلاحًا إلى الحرثِ في مياهِ بحرٍ.

لم أكنْ طفلًا غبيًا كما قد يظنُّ البعضُ، لكن المثلَ كان مجازًا سرياليًا، يصعبُ على طفلٍ في عمري آنذاكَ فهمُ مدلولِهِ الواقعيِّ. لم أتمكنْ من استيعابِهِ إلا بعد مرورِ فترةٍ من الزمنِ، بعد أن خضتُ – عدةَ مراتٍ وليس مرةً واحدةً – تجربةَ ذلك الفلاحِ، الذي كنتُ أتخيلُهُ صغيرًا، يدفعُ أمامَهُ محراثًا للحرثِ في ماءِ بحرٍ أجاجٍ.

التجاربُ اليوميةُ الحياتيةُ مؤلمةٌ في أغلبِها، وقليلُها يُدخلُ بهجةً إلى النفوسِ. ومن المفترضِ أن يتعلمَ الإنسانُ الدروسَ من تجارِبِهِ المؤلمةِ لتفادي الألمِ والخسارةِ، ولا يكونُ كفأرِ المختبراتِ في علاقتِهِ بقطعةِ الجُبنِ وصعقةِ السلكِ الكهربائيِّ. لكننا جميعًا (إلا مَن رحمَ ربي) لا نتعلمُ، كما يُفترضُ ويجبُ، مما يُقابلُنا من تجاربَ حياتيةٍ.

لو كان البشرُ على سطحِ المعمورةِ يتعلمون من أخطائِهم، لاستوعبوا دروسَ التاريخِ، ولَاستفادوا من تجاربِ مَن عاشوا قبلَهم من أممٍ وشعوبٍ. لكنهم، للأسفِ، إلى يومنا هذا، ما زالوا يحرصون على كتابةِ التاريخِ، والاستشهادِ بالتاريخِ وقراءةِ التاريخِ، ويُدرِّسُونَهُ لأبنائِهم وبناتِهم في المدارسِ والمعاهدِ والجامعاتِ، ولا يتوقفون عن تكرارِ أخطاءِ مَن سبقوهم: فهل نلومُ التاريخَ أم نلجأ إلى تحريمِ تدريسِهِ وكتابتِهِ وقراءتِهِ والاستشهادِ به؟

الحرثُ في البحرِ لا يقتصرُ على تجاربِ الأفرادِ الحياتيةِ اليوميةِ، بل يتجاوزُ ذلك إلى الجماعاتِ – صغيرةً أو كبيرةً – إلى شعوبٍ وأممٍ. ورغم تلك الأخطاءِ البشريةِ المكررةِ والمؤلمةِ جدًا، فإن عجلاتِ الحياةِ لا تعرفُ التوقفَ لأنها لا تبالي بالتاريخِ أو بالجغرافيا، أو بمن ما زالوا يحرثون في مختلفِ البحارِ.

شاهد أيضاً

طارق القزيري

الغيطة الليبية وفرقة اجدابيا: العفوية والتوثيق الاجتماعي والتحديات

طارق القزيري يُعدّ فن الغيطة من أبرز تجليات الموروث الموسيقي الشعبي في شرق ليبيا، حيث …